تسمع في البيانات والتصريحات الرسمية عبارات من نوع تأييد الحقوق الفلسطينية، أو دعم الحقوق الفلسطينية، أو عدم التخلي عن الحق الفلسطيني، ولكن ما الحقوق الفلسطينية، وما الحق الفلسطيني؟، فثمة أجوبة كثيرة متناقضة مضمرة هنا، وتبدأ الأجوبة من "الحقوق الشرعية التي أقرتها قرارات الأمم المتحدة"، وذلك ما أقره قرار التقسيم لعام 1947م (نُسِي هذا تمامًا)، وما أقره القرار 242 (إيجاد حل لقضية اللاجئين)، وأخيرًا وليس آخرًا ما يشمله حل الدولتين (والقدسين): 78 من المئة للكيان الصهيوني و22 من المئة لدولة فلسطينية (منزوعة السلاح).
إذا كان الحق الفلسطيني هو الحق في كل فلسطين، ولا شرعية لحق يدعيه المستوطنون الذين هاجروا إلى فلسطين، لنقل منذ عام 1917م إلى اليوم؛ فإن كل الحقوق المذكورة آنفًا بمنزلة الألغام تحت استخدام الحقوق الفلسطينية لنسفها، ولهذا إن كل من لا يريد أن يضع تحت الحق الفلسطيني أو الحقوق الفلسطينية لغمًا، أو ألغامًا، عليه أن يستخدمها مقرونة بعبارة الحق الفلسطيني في كل فلسطين (من النهر إلى البحر، ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش)، أو "الحق الفلسطيني في تحرير كل فلسطين"، وهذا هو التحديد الصحيح للحق، أو للحقوق الفلسطينية.
وينطبق هذا أيضًا على الاستخدام الملغوم لحق العودة؛ لأن استخدامه بعبارة عامة يُراد منها ربطه بقرار 194 الخاص بعودة اللاجئين، وهو قرار يتضمن الاعتراف بالكيان الصهيوني، ويتضمن قبول التعويض، وأصبح يتضمن الآن العودة إلى فلسطين الدويلة (22 من المئة)، أي إلى الضفة وقطاع غزة، وليس إلى القرى والمدن والبيوت والأراضي التي هجروا منها عام 1948/1949م.
هذا، ويذهب بعضٌ إلى استخدام عبارة حق العودة بربطها بحقوق الإنسان، أو الحق السياسي الذي يمتلكه المواطن في عدم إجباره على مغادرة دولته، فضلًا عن ربطه بالبعد الإنساني لما يعنيه التهجير من ظلم للإنسانية، هنا أيضًا ثمة ألغام توضع تحت حق العودة من ناحية خصوصيته الفلسطينية؛ لأن الأساس في حق العودة الفلسطيني ينبع من الحق في كل فلسطين، وعدّ ما جرى من تهجير عملية اقتلاع وإحلال، وهذا غير حالة حق المهجرين بالعودة لأسباب إنسانية، أو لأسباب تتعلق بانتهاك حقوق المواطنة، أو مخالفة لمبادئ حقوق الإنسان، وكذلك تشكل عبارة حل عادل لقضية اللاجئين لغمًا آخر من العيار الثقيل أيضًا.
لهذا إن الذين لا يريدون أن يضعوا ألغامًا تحت حق العودة بمحتواه الخاص بالقضية الفلسطينية يجب أن يستخدموه كالتالي: حق العودة إلى الديار التي هُجِّر منها الفلسطينيون، والعودة إلى أراضيهم وبيوتهم وقراهم ومدنهم، وهذا الحق لا يسمح للفرد الفلسطيني أن يقبل تعويضًا أو توطينًا ولو في أفضل العواصم بالدنيا؛ لأنه ليس حقًّا فرديًّا وإنما هو حقٌّ جماعيٌّ لشعبٍ بأسره في فلسطين كلها، وليس له من حلٍّ غير تحرير فلسطين والعودة إلى الديار التي اقتُلِع ثلثا الشعب الفلسطيني منها، بل لا يحق لجيلٍ فلسطينيّ بأكمله أن يفرّط بهذا الحق الذي هو حق الأجيال السابقة واللاحقة أيضًا.
ومن الموضوعات التي أصبحت تطلق بعمومية، وتحمل تحتها ألغامًا، كان موضوع "المقاومة"، ففي البداية كانت تحدد بالمقاومة المسلحة، ثم زرع تحتها أول لغم من طريق المدرسة السوفييتية، في حينه، وذلك بالتركيز على "حق ممارسة كل أشكال المقاومة، ومنها المقاومة المسلحة"، وكان الهدف التخفيف من عبارة "المقاومة المسلحة" ومساواتها بالأشكال الأخرى، وصولًا إلى اتفاق أوسلو الذي عدَّ المقاومة المسلحة إرهابًا، وعدّ المفاوضات شكلًا رئيسًا من أشكال المقاومة، ومعها كل سياسات سلطة رام الله حتى عدّ مجرد وجودها "مقاومة"، وجاءت الانتفاضة الثانية لتعيد الاعتبار، عمليًّا، لا رسميًّا، إلى المقاومة المسلحة.
ولكن مع مجيء عهد محمود عباس والانقسام بين سلطة رام الله والمقاومة المسلحة في قطاع غزة، ومع الاتفاق الأمني، أصبحت المقاومة المسلحة في الضفة الغربية محرّمة، ليحل مكانها الحديث عن "مقاومة شعبية" ردًّا على ما جاءت به "صفقة القرن"، وإعلان ضم القدس عاصمة للكيان الصهيوني، ونقل السفارة الأمريكية إليها.
هنا زرع حتى تحت شعار المقاومة الشعبية لغم أكبر، وهو اللامقاومة بل مناهضة كل حراك شعبي يمكن أن يصطدم بالاحتلال، وبهذا صارت "المقاومة الشعبية" تعني استمرار التنسيق الأمني، ومنع الانتفاضة الشعبية السلمية، وغير السلمية، ولهذا على كل من لا يريد أن يستخدم شعار المقاومة الشعبية مشوّهًا أن يفهمها مقاومة شعبية تصطدم بمواقع الاحتلال ودورياته، وتصل إلى العصيان المدني السلمي- الانتفاضة الثالثة.
ومن الطريف ما صرح به الدكتور نبيل شعث بتاريخ 3 كانون الآخر (يناير) 2021م أن "موضوع المقاومة الشعبية يجب أن يخضع لدراسة مدققة"، يعني أن قيادة فتح التي أعلنت تبني المقاومة الشعبية منذ زمن لم تدرس بعد دراسة مدققة كيف ستكون المقاومة الشعبية، يعني كانت شعارًا محتواه اللامقاومة واللاانتفاضة.
وخلاصة، يجب على كل من يتحدث عن الحقوق الفلسطينية أن يقول لنا ما الحقوق التي يعنيها؟، فإذا أبقاها عامة فاعلموا أن ثمة لغمًا تحت ما يقول، وهذا لا ينطبق فقط على المهرولين الذين يحاولون الاختباء وراء تمسكهم بالحقوق الفلسطينية، وإنما أيضًا على كل من في نيته المساومة على الأصل المبدئي.
وكذلك يجب على كل من يتناول حق العودة أن يوضح الأساس الذي يقيم عليه هذا الحق: هل يقيمه على أساس قرار 194؟، أم على أساس إيجاد حل عادل لقضية اللاجئين؟، أم على أساس حق العودة إلى فلسطين بحدود ما قبل حزيران 1967م (حل الدولتين)؟، أم يعده نابعًا من الحق الفلسطيني بكل فلسطين؟، وهو حق جماعي، ولا يجوز لأي فرد أن يختار التخلي عنه أو مقايضته؛ لأن ما من فرد له الحق في أن يتنازل عن الوطن وعن الوجود في الوطن، صحيح أن من حقه أن يغترب، لكن لا يمكنه أن يتنازل عن فلسطين أو عن حق العودة.
وأخيرًا وليس آخرًا، يجب التوقف عن الكلام على المقاومة عمومًا أو المقاومة الشعبية مفرّغة من الصدام مع قوات الاحتلال والمستوطنات والمستوطنين، أما اختيار شكل المقاومة فلم يعد خيارًا في المرحلة الراهنة لأنه متجسّد واقعًا في المقاومة التي بقطاع غزة، ومتجه إلى الانتفاضة الشعبية والعصيان المدني في القدس والضفة الغربية، ولا معنى للمقاومة الشعبية إذا تضمنت التنسيق الأمني، وترفض مواجهة قوات الاحتلال والمستوطنين.