قائمة الموقع

في معركة "الفرقان" .. (3) صدمات تجثم على ذاكرة مقاتل بـ"القسام"

2020-12-30T11:14:00+02:00
02be8859-386c-4d89-9547-ebb765af45e6.jpg
فلسطين أون لاين

مرت ساعة إلا ربعًا، على وجود "أبي مالك" (مقاوِم بكتائب الشهيد عز الدين القسام) ورفاقه في موقع عسكري، ينقلون عتادًا إلى موقع آخر بمحافظة الوسطى، في الأعلى طائرات الاحتلال الحربية تأخذ مواقعها وتتخفى في السماء، تحركت المركبة بحمولتها الأولى في حين بقي عددٌ من المقاوِمين يحرسون الموقع، وابتعدت مسافة 200 متر قبل أن تهتز المركبة التي صعد على متنها "أبو مالك"، وقعت أصوات انفجارات متتالية من الموقع الذي غادروه قبل قليل، وكأن زلزالًا ضرب المنطقة.

ما إن استدارت المركبة وعادت لتفقد المقاومين الذين بقوا في الموقع، حتى وصلت لهم إشارة باستهداف الطائرات الموقع الذي كانوا سينقلون العتاد إليه، والأحرى أنهم نجوا من موت ربما كان سيحدث، لو أكملوا المسير.

 نزل أبو مالك ورفاقه يبحثون بين ردم الموقع المستهدف والحفر التي خلفتها الصواريخ، عن زملائهم، ينادون على أسمائهم وكأنَّ الأرض قد ابتلعتهم، ترتد إليهم أصواتهم بلا إجابة، حتى بدأت أيديهم تعثر على بقايا أشلاء رفاقهم ممزقة بين الرمال، ظهر السابع والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) عام 2008م، لحظات ما زالت جاثمة على ذاكرة المقاوِم أبو مالك الذي أعاد تحريكها من شريط الذكريات لصحيفة "فلسطين".

"بداية عثرت على أشلاء صديق لي يدعى "أبا البراء"، تذكرت كلماته قبل أن أخرج من الموقع ممازحًا لي: "إنت مش مطول يا أبو مالك"، كلماتٌ أسقطت دموعي وقفتُ أنظر مشدوهًا، لا أصدق ما جرى، وقبل وصولي لهذه المهمة التقيت أعز صديقين لي، وهما رامز وإسماعيل حمدان، بقينا مدة من الوقت نتبادل الحديث قبل أن يذهبا إلى عملهما بالشرطة، وأنا جئت لعملي لتأدية مهمة خاصة لكتائب القسام" تتسابق المشاهد بين كلماته.

لا يزال يحتفظ بكامل التفاصيل في صندوق الذكريات: "بدأنا نعرف أن الاحتلال يستهدف كامل قطاع غزة، فنقلنا أشلاء ثمانية شهداء، وكنا نجمعها في النايلون، أتذكر أحد المجاهدين الذين تمازحت معهم قبل الحدث -وقد كان أعزب- وهو يتأفف من ثقل العتاد،  إذ ضربته على كتفه أعاتبه: "شيل يا تعبان؛ كيف بدنا نجوزك بكرة؟!"، فأجاب بعد أن ابتسم صوته: "بدي أتزوج من الحور العين"، وقد ظل يبكي بحسرة وقد ضاعت منه أمنيته، ينهال على نفسه بالعتاب: (مين قلي أسيبهم وآجي معكم؟!، ياريتني ضليت واستشهدت!)".

 انتهوا من جمع الأشلاء وتحركت المركبة تجاه مستشفى شهداء الأقصى، وفي أثناء المسير قصفت الطائرات الموقع نفسه، وقبرته، "لو تأخرت المركبة عدة دقائق لتحققت أمنية الشاب، ولكنت في عداد الشهداء، ولكنها أقدار الله وأعمار لا تنتهي إلا بأجلٍ يعلمه هو" تأملٌ وجداني شتت تفكير "أبي مالك".

الصدمة الثانية

" كان المشفى مزدحمًا بالناس، جلست بين الجثث قبل أن يرتج الهاتف بيدي، يسألني المتصل: "إنت عارف مين استشهد؟!"، ثم أتبع كلامه: "ربنا يصبركم، أصحابك رامز وإسماعيل حمدان استشهدوا"، فتهاوت دمعاتي على وقع الصدمة الثانية، فقد كانا أعز رفيقين عرفتهما طيلة حياتي، نخرج يوميًّا، نتزاور، نتناول الفطور والعشاء معًا، وعشت صداقة لا يمكن وصفها معهما، تفرد المحبة ذراعيها لتطوق أخوتنا وتزهر في قلوبنا".

 من هول الصدمات التي شاهدها لم يشعر "أبو مالك" بتلك الحجارة التي ارتطمت برأسه وظهره وسال دمه من شدة الانفجارات، قبل أن يستعد لتلقي الصدمة الثالثة، تنهد ذلك الحزن الذي يسكن صدره إلى اليوم: "رن هاتفي مرةً أخرى؛ وكان المتصل ابن عمتي (حماته)، يسألني: مالك ليش بتبكي؟!"، فأخبرته أن أصدقائي ورفاقي استشهدوا، ليصدمني باستشهاد والدته بقصف الاحتلال لمخيم جباليا، وقتها أغمي علي لحظات؛ فقد وقعت الصدمات الثلاث متفرقات مثل صاعقة ضربت جسدي عدة ضربات، وخارت معها كل طاقتي البشرية في التحمل".

رجع إلى بيته يحمل بقايا الدموع التي رست على ملامحه، بوجه شاحب، تكسوه الغبرة وكأنه عائد من معركة، وقد كانت معركته مع الحزن والفراق أصعب من قتال شديد بالرصاص، تسأله زوجته: "إيش مالك، صاير معك إشي؟!"، لتكون أمام المصارحة الحتمية باستشهاد والدتها، لتنهار بقربه هي كذلك.

"أتدري؟ (يحار في وصف هذا الموقف) أخذت زوجتي للمشاركة في تشييع جثمان والدتها، وإذا اتصال يخبرني أن جثمانَي صديقَي رامز وإسماعيل قد وصلا، حرت في أي الجنازة سأشارك، تقف أحزاني على مفرق طرق، فاخترت أقربها وذهبت لتشييع صديقَيّ ومواراة جثمانهما الثرى، وأرسلت زوجتي مع أهلي للمشاركة في جنازة أمها".

وبينما تسير الجنازة ويرفع رامز وإسماعيل على الأكتاف، كانت طفلات إسماعيل (أربع بنات) يقفن على قارعة الطريق يشيعن أحزانهن، يتحرك باقي المشهد في حديثه: "ذهبت وطوقتهن بذراعي، إلا أن أصغرهن مسحت دموعي بأصابعها وقالت بطفولة: "صح بابا بالجنة، ليش بتبكي يا عمو أبو مالك؟!، بكرة كلنا بنروح عنده"، ولا تعلم أن والدها رحل بلا عودة".

كمين في "الأرض المحروقة"

مر اليوم الأول، وبدأت معركة "الفرقان"، نفض "أبو مالك" غبار الحزن عن قلبه، استل سلاحه بعدما استدعي لساحات الوغى لصد العدوان، أرسل إلى موقع كمين مهم غربي النصيرات لتوقع القيادة حدوث تسلل من قوات خاصة تابعة للاحتلال، لم يقل المشهد صعوبة عن سابقيه: "كنا ستة مجاهدين، توزعنا على ثلاث حفر (كمائن)، مغطاة بأغصان الشجر ومندمجة في البيئة المحيطة، وبعد ساعات من وصولنا بدأت بوارج الاحتلال تضرب المنطقة التي نحن فيها، وكذلك قذائف مدفعية من الشرق، ثم وصلت الطائرات الحربية المروحية (هيلوكوبتر)، نسميها عسكريًّا (الأرض المحروقة)، وهي نيران تمهيدية قبل أي عملية تقدم برية أو تسلل".

قصته جسدت واقع المقاومين بغزة في تلك المعركة، فقد ابتلعوا الصدمة الأولى وثبتوا في رد العدوان، تقف على مدخل فهمه تفاصيل أخرى: "كنت أنظر بطرف عيني من بين الأغصان التي تغطي سقف الحفرة، أرى قذائف الفسفور وهي تسقط على أقفاص الطيور، فتحرقها وتتفحم معها، وبدأنا نستعد لعلمية الإنزال المرتقبة".

"رفعت نظري مرة أخرى، فنظرت إلى طائرة تقف فوق الكمين مباشرة، اعتقدت أنها لحظة المواجهة، قبل أن تطلق قذيفتها باتجاه الشرق بعيدًا عنا".

لحظات وتحرك قارب إسرائيلي واقترب من الشاطئ، لكن سبق مقاومون من فصيل عسكري آخر، أبا مالك، وأطلقوا النيران عليه، وحينما وصلوا لحمل الجنود، انفجرت الدمى والقارب بهم، فقد كان طعمًا أرسله الاحتلال لكشف كمائن المقاومين؛ استشهدوا على الفور، في حين بقي هو ورفاقه في الكمين نفسه مدة يومين متتاليين، كانت البوارج تمطر المنطقة بالقذائف، لا تكاد تمر خمس دقائق حتى يصل غبار القذائف المتساقط إلى رأس وفم "أبي مالك"، اعتقدوا أنهم سيستشهدون من الطمر ويدفنون بين الرمال، لكنه عاش ليروي لنا حكايته، في معركة "الفرقان" التي استمرت 23 يومًا وأدت جرائم الاحتلال فيها إلى استشهاد قرابة 1500 مواطن.

 

 

 

 

 

اخبار ذات صلة