قائمة الموقع

"ضباط التقصي" .. الجنود المجهولون في تثبيت الوباء وتحديد مصدره

2020-12-27T11:26:00+02:00
صورة من داخل قاعة لجنة التقصي بعيادة الرمال بمدينة غزة
فلسطين أون لاين

 

الحكيم "الشيخ" يبحث عن وقتٍ للجلوس مع أطفاله

النقيب "الهسي": نداوم 7 أيام بلا إجازة أسبوعية ونعود للبيت مساءً

ضباط اللجنة أجروا نحو 35 ألف اتصال منذ بدء الجائحة

د. العبادلة: متابعة لجنة التقصي تحد من تحرك المصابين وتساعد على اتخاذ القرارات

د. العجرمي: المعلومات تغذى على برنامج إلكتروني

 

غزة/ يحيى اليعقوبي:

"مين ساكن معها بالطابق؟"، "قبل ما تصير الأعراض معك أنت وين كنت (عزا/ فرح)؟"، "يعني مش عارف من وين إجتك العدوى؟!"، "حضرتك من جباليا؟"، "عندها إرهاق، تعب، غثيان، حرارة؟"، "لازم تاكل الحمضيات، لمون، برتقال، كلمنتينا، وتعرض نفسك لأشعة الشمس" أصوات لا تتوقف وهي تصدر في آنٍ واحد من أفواه "ضباط تقصٍّ"، تتحامل أحبالهم الصوتية على نفسها من الصباح حتى المساء، مع كل اتصال يضعف الصوت تدريجًا شيئًا فشيئًا، فيصبح بعد مائة اتصال وكأنه انقطع مثل صوت لاعب مضمار دار حول ملعب أولمبي.

 في صالة واسعة يعمل -وفقًا لإفادة رئيس لجنة التقصي- 45 فردًا، ومثلهم في الميدان يتوجهون للبيوت، موزعين على فريقين، أحدهم يتبع وزارة الصحة والآخر وزارة الداخلية.

 تجد أمامك ديناميكية في العمل، يمسك كل موظف في فريق وزارة الصحة كشفًا به أرقام عشرات المصابين ورزمة نماذج تفصل حالة المصاب وبياناته كاملة، قد تزيد مدة كل اتصال على عشر دقائق أو ربع ساعة، فيها يستمع إلى الآهات الأولى للمصابين، أو معرفتهم خبر الإصابة لأول مرة في حال أخطأت رسالة المختبر ووصلت إلى رقم مختلف، وهذا يحدث أحيانًا.

وقت الدوام هنا معروف، الجميع يصل الساعة الثامنة صباحًا، أما وقت المغادرة فينتهي عند آخر مكالمة هاتفية بآخر مصاب، وقد يمتد حتى الثامنة مساءً ويزيد في ذروة العمل، يعملون مدة سبعة أيام أسبوعية بلا إجازات، يعلنون حالة الاستنفار الكاملة، يجلسون في صالة واحدة ولكنهم لا يجدون الوقت ليتحادثوا، فأعضاء فريق وزارة الصحة كلٌّ منهم يمسك هاتفًا ويرتدي سماعة على رأسه ويتصل بالأسماء المدونة في الكشوفات أمامه واحدًا تلو الآخر، قبالة منهم يتسلم ضباط التقصي الذين يتبعون وزارة الداخلية تلك النماذج بعدما ينتهي موظفو الصحة من ملئها فيدخلونها عبر نظام محوسب، تتسابق أصابعهم على لوحة الحاسوب في إدخال البيانات.

في الأثناء كانت صحيفة "فلسطين" ترصدت على مدار ساعة ونصف أجواء العمل داخل لجنة التقصي الوبائي، داخل عيادة الرمال بمدينة غزة.

7 أيام عمل بلا إجازات

على أحد المكاتب ترك الحكيم عبد اللطيف الشيخ الهاتف، متفرغًا للمقابلة معنا، يسلك الإرهاق طريقًا إلى ملامحه والتعب يأخذ من نبرة صوته لكثرة الحديث مع المصابين، قائلًا: "عملنا يتعلق بالاتصال بالمصابين، وأخذ بياناتهم، ونعطيهم النصائح والإرشادات الخاصة بطبيعة المرض، والتعامل مع الفيروس، فنحن طاقم من أطباء وحكماء وصيادلة، لدينا خبرة سنوات عديدة في مكافحة العدوى بالمستشفيات قبل أزمة جائحة كورونا، وكذلك حصلنا على دبلوم عالٍ في مكافحة "العدوى"، ونستطيع الإجابة عن أي سؤال، ولدينا إجابات شافية ومناسبة نابعة من خبرتنا المهنية والعملية السابقة".

العمل مدة سبعة أيام في الأسبوع ألقى بظلاله على منزل الحكيم عبد اللطيف، يعود إلى البيت متأخرًا، يحمل معه مشقة العمل، وتعب، وإرهاق رافقاه طوال اليوم، تنسدل عيناه بستار النعاس، يريد الاستعداد ليوم عمل جديد في مكافحة "العدوى"، يبتسم بعفوية: "أحيانًا بتروح على البيت بتلاقي الأولاد مشتاقينلك، لكنك مش قادر تقعد معهم بسبب التعب".

"الموضوع كان صعب عليهم، لكن تعودوا"، كل هذا العبء والبعد عن الأهل يهون عنده في سبيل تخفيف الآهات والآلام عن أبناء شعبه، هم "رسل للجمهور"، هكذا يعدون أنفسهم.

من الصعب على شخص يجري يوميًّا قرابة مائة مكالمة، تتشابه فيها آهات المرضى، أن يتذكرها جميعها، لكن بقي هذا الموقف عالقًا: "في إحدى المكالمات اتصلت بمريض بكورونا، من صوته لاحظت أن لديه ضيقًا حادًّا بالتنفس، بمجرد أن عرفت عن نفسي أني من وزارة الصحة استغاث بي: "رجاء انقلني حالًا"، بداية أعطيته دعمًا نفسيًّا، وطلبت منه أخذ نفس عميق، وفتح نوافذ الغرفة، والجلوس بمكان واسع، ثم الاستنشاق بعمق، وشرب "بابونج"، والابتعاد عن أماكن فيها روائح كريهة، وطلبت نقله فورًا للمشفى بعد انتهاء المكالمة". 

"مع أول اتصال تبدأ مرحلة الإنكار بأنه ليس مصابًا، خاصة الذين لم تصلهم رسالة هاتفية أو أرسلت لرقم خطأ"، ولا يزال يذكر تلك المسنة، ينبش في تفاصيل المكالمة: "الساعة التاسعة ليلًا، أمسكت آخر ورقة بيدي، واتصلت بالهاتف، فردت المسنة المصابة بنفسها –ولم تكن تعلم أنها مصابة– وبعد أن مهدت لها أخبرتها أنها مصابة، فانهارت عبر الهاتف: "مستحيل أنا فش فيَّ أعراض أنا بخير، إيش اللي بتقوله؟!"، سقط الهاتف من يدها وبقيت مدة أنادي: "ألو، ألو، ألو، كلميني يا حاجّة، تقلقيش"، حتى تناوله أحد أبنائها وطلب حجرها بالمنزل".

بدا النقيب أحمد الهسي من وزارة الداخلية منهمكًا في إدخال البيانات، تتراص بقربه مجموعة نماذج، تتحرك أصابعه على لوحة الحاسوب بسرعة وكأنها تخوض سباقًا في تحدي الزمن، في حين عيناه تركزان في شاشة الحاسوب، "عملنا في متابعة الخريطة الوبائية، وإدخال بيانات المصابين والمخالطين عبر نظام محوسب خاص بوزارة الصحة، بعد أن نتسلم الإفادات والنماذج الورقية التي ملأها ضباط التقصي بوزارة الصحي، ضمن لجنة مشتركة بيننا" قالها وما زالت عيناه على الحاسوب.

منذ بداية ظهور الفيروس داخل المجتمع، استدعي النقيب أحمد للعمل، ومنذ تلك المدة يصل الليل بالنهار، "أتدري؟" -الكلمات المتسارعة متزاحمة على مدخل فمه- "نعمل حتى ننتهي من الكشوفات ونغادر، أذكر أني في مرة عدت المنزل حينما انتصف الليل".

خنقت ضحكة عابرة كلماته: "دوامنا على مدار أيام الأسبوع السبعة، ما دام في مصابين يعني في عمل، بنفضاش نتكلم إلا في وقت الصلاة والطعام".

في وجهه سعادة رضا: "نعمل ونرتقي لأجل خدمة أبناء شعبنا، والآن أصبحت الكشوفات أقل عددًا، فنعود لمنازلنا الساعة الثامنة مساءً (...) دافعنا الوحيد هو خدمة أبناء شعبنا، تواجهنا بعض المعيقات؛ فهناك مصابون لا يتعاملون مع الاتصال الأول، فنحرك عناصر ميدانية".

على لوحة الحاسوب أمامه، أيقونة خاصة بالإصابة، بها يدخل بيانات المصاب كاملة: المهنة، ومكان السكن، وطبيعة الحجر (منزلي/ مستشفى)، وأسماء المخالطين، يضيف: "الأغلب حاليًّا يطلبون حجرهم منزليًّا".

شراكة وأدوار تكاملية

تجسد لجنة التقصي الشراكة بين وزارتي الصحة والداخلية في العمل، بعد أن تتسلم طواقم وزارة الصحة متابعة كشوفات المختبر المركزي بشأن المصابين التي تطبع على نموذج معد مقدمًا، تنطلق اللجان هنا يوميًّا للعمل، يقول عضو اللجنة د. شحادة العجرمي وهو منشغل في إدخال بيانات شكاوى لمصابين: "نتصل بالمصابين ونأخذ إفادتهم، وهي عبارة عما يخص السكن بالتفاصيل، فضلًا عن الاستفسار عن الأمراض المزمنة لمعرفة الوضع الصحي للمرض، وتقيم حالة أعراضه (خفيفة/ شديدة) لتحديد المكان الأنسب لعزله، وهل بحاجة لتدخل طبي".

تبعًا لحديث شحادة، إن المعلومات تغذى على برنامج إلكتروني، وهو يمثل "نقطة البداية لكل المؤسسات بغزة الحكومية والخاصة لمتابعة المصابين العاملين فيها، كقطاع التعليم مثلًا"، فضلًا عن أنهم يتلقون شكاوى المصابين على رقم وزارة الصحة (103).

مدير وحدة السلامة ومكافحة العدوى رئيس لجنة التقصي الوبائي د. رامي العبادلة الذي يتابع العمل من كثب في قلب القاعة المشتركة يقول: "كل يوم يجتمع الفريق لمتابعة المصابين عبر رسالة تبليغ بالإصابة، ثم أخذ الإفادة، للحد من موضوع انتشار الفيروس ومعرفة المخالطين، فالمتابعة المستمرة أولًا بأول تحد من عملية تحرك المصابين بين المناطق العامة، ما يقلل من نسبة الإصابة".

يضيف العبادلة لصحيفة "فلسطين": "لجنة مكافحة العدوى هي الفيصل والمثبت للوباء، عن طريقها تؤخذ الإجراءات وترفع التوصيات لاتخاذ قرارات تتعلق بالإغلاق، وهي التي تحدد مصادر العدوى، إن كانت الأسواق، أفراح، عزاء، ومدى مساهمة التزاور العائلي في انتقالها".

تتجلى هنا أهمية العمل المشترك في أبهى صوره، وتكامل الأداء والأدوار، وإسناد الآخر، بلغ إجمالي العدد التراكمي للمصابين حتى أمس ٣٥ ألفًا و257 مصابًا، أي أن هذه اللجنة اتصلت بعدد المصابين نفسه.














 

اخبار ذات صلة