قائمة الموقع

رحلةٌ بلا أسئلة

2020-12-23T16:44:00+02:00

تعدُّ حقيبتك على عُجالة، تسقطُ خلال ركضِك حقيبةَ الأسئلة، ولا أدري هل ستقول: "ذاهبٌ إلى فلسطين" أم أنهم نجحوا بعد كل هذه السنين برضوخك لأسمائهم.

لم تكن صدفةً حين توالت الهضاب الخضراء من خلف شباك التاكسي الذي يُقلِّكَ من (تل أبيب) إلى القدس، فشعرتَ برغبةٍ في سماع نشيد موطني على حين فجأة، وتستغرب كيف يرتجف القلب عند سماع موطني في كل مرة كأول مرة.

عندما وصلتَ القدس هل "دَبَّ الجندُ مُنْتَعِلِينَ فوقَ الغَيمْ" كما حدّثنا البرغوثي؟، أم أن الموضوع اختلف لديك وأمسى أكثر وُدًّا وأُلفة؟

تريث هنا وأنصت جيدًا؛ ففي القدس لا مجال لإخماد الحواس كما فعلت طوال الطريق، لن تُعطِّلَّ العقل عن أداء مهمته في السؤال: ذاك الجندي الذي يحميك أمام البوابات أليس ذاته من قتل إياد الحلاق مريض التوحد خلال ذهابه إلى مدرسته، ولا أعتقد أنك رأيت أم إياد وهي تحتضن صورة ابنها الشهيد تصرخُ قهرًا؟!

لا بد أنك ستضطر للقفز عن الكثير من الأحداث، ففي كل شبر هنا قصة، كيف ستتجاوز صرخات المظلومين والمحزونين على أعتاب بيوتهم ودكاكينهم المُصادرة؟!، كيف للذاكرة أن تقفز عن دمائهم وقهرهم أمام الحواجز العسكرية؟!

وإن تدخل باب العمود فلا تنسً أن تلتفت وراءك، ربما سترى خديجة خويص تجلس خارجه على الأسفلت ترتل القرآن، لا تتساءل لم تفعل ذلك، فقد أُبعدَت عن الصلاة في الأقصى لسبب لا يعلمه أحد، هذا الجندي الذي سيسمح لك بالدخول ويمنع خديجة، تمعن في وجهه، أليس ذاته من ضرب حرائر القدس وشبابها، فصرخت بوجهه مقدسية حرة مثبتةً قرآنها بين عينيه؟!، أم كان أقرانه من أطلقوا على هديل الهشلمون خمسة عشر رصاصة كاملة لأنها رفضت خلع نقابها أمام الحاجز؟!

لا تشتت عقلك بالتفكير في هذه الأمور، المهم إذا دخلت للصلاة فاخشع، وإن عمَّ الهدوء في حضرتك فأزح المشهد، إن توالى أمام عينيك انفجارُ قنابل الغاز بين المصلين وهجوم الجند والمستوطنين قاطعين على أهل المدينة صلاتهم.

لا تنسَ أن ترفع يديك بعد الصلاة وتدعو لدولتك أن تستقيم مصالحها العليا، التي جئت اليوم إلى القدس تحت مظلتها، وفكر: كيف يمكن أن نتخلى عن هذه الأرض مرتين: مرة نسمح للمحتل أن يسلبها ونغُضُّ الطرف عن تدنيسه فيها، وأُخرى نجعل العلاقات معه "طبيعية"، نصفق له ونعطي الشرعية لأفعاله واستباحته الأرض فيها؟!

ولما تفرغ من الصلاة فاخرج للتجول في باحات الأقصى، سأستغرب إن لم تبصر هنادي حلواني قد أنهت مدة إبعادها وشرعت تقلب "مقلوبتها" مع رفيقاتها في الرباط، وعليك أن تستغرب: كيف لـ"طبخة مقلوبة" أن تغيظ جيشًا كاملَ العدة والعتاد وعلى حد زعمه "لا يُقهر"!

وإذا رفعت رأسك لاستنشاق رذاذ الحب في هوائها وقلّبت السماء بين عينيك فحذارِ أن يرسم لك الغيم والحمام صورة نائل البرغوثي وسنوات أسره الحادية والأربعين، ثم إياك أن تجرك الذاكرة إلى قهر أم فارس بارود، كلما ذهبت لزيارة فلذة كبدها في الأسرِ وقد ذهب بصرها، فيردُّها الجنودُ طيلة ثماني عشرة سنة يقولون لها: "ارجعي، فش زيارة"!

عندما ترى خلال جولتك المستوطنين يجوبون باحات الأقصى، يراودني السؤال: هل ستقفُ بقربهم وتبتسم لهم؟، وكيف ستتبادلون أطراف الحديث بالعبرية أم العربية؟

سأغتنمُ هنا الفرصة أيضًا وأطلب منك أن تسألهم: ماذا أرادوا من محمد أبو خضير حين خطفوه وأحرقوه حيًا؟ وأيُّ حقدٍّ هذا الذي دفعهم لحرق عائلة دوابشة حتى خرجت زجاجة الحليب سوداء؟

خلاصةُ القول: لا تتلفت حولك كثيرًا، ودع العقل في إجازته الطويلة، وإياك ثم إياك أن تفكر، عد إلى حيث جئت ونم على مخدتك سعيدًا بالذي صنعت، ولا تسمح لضميرك أن يئن وأطفال غزة يفترشون الأرض فينامون فوقها، والطائرات تأبى إلا الردم يختنقون تحته، إذا ما وجدت صورهم على التلفاز يومًا رماديين يُخرَجون من تحت الأنقاض فاقلب الصورة سريعًا، حتى يتسنى لك النوم تلك الليلة.

كان من البدهي أن تفكر، أن تحزم أمتعتك وتسأل: وأنا ذاهبٌ إلى هناك ماذا تُراني أُثبت؟

من الطبيعي للجندي أن يضحك؛ فأنت اليوم زائرٌ في "مقدساته" لا مقدساتك، بمجيئك قفزت عن دم المذبوح، وبدلًا من دخولها فاتحًا مكبرًا، دخلتها رافعًا يديك تصفق مباركًا للذابح فعله.

أضعُ احتمالًا أنك خُدِعت، لكني أخبرك اليوم شيئًا لن يقولوه لك حين ينسقون رحلتك إلى "القدس"، وإني بلغتُ لا لأنك تجهل، وإنما استخدمتك بطلًا لقصتي أُذَكِّرُنا من طريقه ببعض الذي حدث.

اخبار ذات صلة