جئتُ للحياة لم أحمل من ذكريات والدي سوى هذه الرسالة؛ خطتها يداه خلال إبعاده لمخيم "مرج الزهور" جنوب لبنان عام 1992م، ولدتُ دون أن أسمع الأذان بصوته، دون حضنه الأول.
أعلم -يا أبي- أن الحزن كان يملأ قلبك وأنت في مرحلة إبعاد لمخيم "مرج الزهور" في لبنان، الاسم الذي أطلقته على اسمي، وقد كنت جنينًا إلى أن جاء موعد ميلادي وخروجي للدنيا، وأنت لم تكن موجودًا، افتقدت الحضن الأول وتمرير صوت الأذان بأذني، فقد فصلت بيننا أميال من الإبعاد تفرق فلسطين عن لبنان ويجثم بينهما الاحتلال، لكن قلبك كان بقربنا حاضر معنا.
حروف عمرها 28 عامًا على قصاصة ورقية ذيلتها بتوقيعك، تصاحبني إلى اليوم، تذكرني بحكاية حلم تحرري من أغلال الاحتلال، في تلك الرسالة كان الحزن يملأ فمك، لتحرره على قصاصة ورقية احتفظتُ بنسخة منها في قلبي وأنت تخاطبني من بعيد: "طفلتي الحبيبة زهور، أحب الزهور وحبي لزهرتي الصغيرة أشد، فكما تخرج النبتة اليافعة من الأرض اليابسة، والمياه العذبة من بين الصخور، تخرجين زهرتي من بين الآلام لتجدي أمامك الحرمان من حب أبيك، تخرجين كما تخرج الإرادة العظيمة من وسط السلاسل وكل عام وأنت بخير".
وذيلت توقيعك عليها: "ولدك المحب المشتاق "محمود"، أما أنا فوضعت توقيعي بجوار اسمك، هذه المكان الوحيد الذي جمعنا معًا أخاطب روحك، أرد على رسالتك وقد فهمت بعد مرور السنين معنى الشوق، والبعد، والفراق، فهمته بعدما رحلت: "والله يا بابا مشتاقة كتير لحنانك".
ذكرى الإبعاد تمثل الكثير في مواطن حياتي لكوني حاملة هذا الاسم، ابنة شهيد وقيادي بالدعوة الإسلامية وحركة المقاومة الإسلامية حماس، وله بصمة بطولية في حياته، أسير في طريق سلكها أبي، وأُعدّ قدوة لغيري، لكل شخص يعرف أن والدي الشهيد محمود أبو هين ثم أذكر سبب التسمية، وأقص حكاية إبعاد قيادات المشروع الإسلامي مدة عام وكيف أزهر المشروع وفاحت رائحته أرجاء المنطقة جنوب لبنان في حين أزهرتُ من رحم أمي، أحكي قصتي لكل شخص يستغرب الاسم.
دائمًا تحضرني الذكرى، في كل مكان، ومقابلة، ولقاءات، أذكر الاسم وسببه.
رحلت يا أبي، وبقيت طبقة الحزن متيبسة فوق قلبي، أشتاق لعناق تطوقني فيه بذراعيك فتذيب أحزاني، وإن رحلت لكن الحوار الروحي لم ينقطع بيننا، خاصة في الأوقات التي أحتاج لك فيها لتكون بجانبي، لم تترك لنا ميراثًا بل بصمة وسمعة وتاريخًا مشرفًا، فاسمك وتاريخك كفيلان بجعل الأنظار تتجه نحوي حينما يذكر، فيا له من شعور عزة، ينتشي فيه القلب فرحًا ويعلن انتصاره على غصة الحزن، في معركة الفقد.
للفقد أقفال
دائما غصة الفقد حاضرة في الفرح والحزن في كل مراحل حياتي، يطاردني بأقفاله التي تلتف حول حبال الأمل، فلكل فرحة تعصف بعها غصة، في وقت الفرح ينبع شيء من داخلي، ليوجع قلبي من الداخل ويذكرني أن أكثر شيء تحتاج له هنا غير موجود بين وجوه الحاضرين.
يوم تخرجي في الجامعة وكنت أسير بموكب الخريجين، جاءت عيني بعين أمي وانسابت دموعي بخفة، لم أشعر إلا بحرقتها وهي تسقط على مدرج الخريجين، خاصة حينما نادوا على اسمي "مرج الزهور"؛ فلم يكن الأمر عاديًّا، يومها أخذ رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية (الميكرفون) وعرف الناس علي، وأني ابنة الشهيد محمود أبو هين، تكرر الأمر يوم مناقشة الماجستير؛ فقد أبلغتني إدارة الجامعة أنهم "سيحضرون المناقشة على شرف والدي"، والأمر يتكرر كثيرًا، كل شيء لأجل والدي؛ فأكون سعيدة بهذا الشرف.
سأبقى أحمل المعنى للإبعاد، وأدافع عن قضيتنا، وهذا يحتاج أن نكون على قدر من المسؤولية لنمثل تاريخ الآباء وطريقهم التي سلكوها، لم يتركوا ميراثًا بل بصمة واسمًا نفتخر به في كل مكان ووقت وزمان نحن أبناء الشهداء.
مواقفي مع أبي لم تكن كثيرة، لأني لم أعش معه سوى أيام قليلة، رحل وتركني في سن تسع سنوات، حتى هذه لا أذكر منها التفاصيل، فقط كانت حياته متنقلة بين سجون السلطة والاحتلال والدعوة.
أما هذا الموقف فقد تعلق في تلابيب الذاكرة، ونحن نجتمع على مائدة واحدة يوم الجمعة، عاتبني أبي: "كلي كويس عشان لما تكبري تكوني قوية وتعملي عملية استشهادية"، أجبته أني أستطيع ذلك، ليس عندما أكبر بل الآن، طارت منه ضحكة أشرق بها وجهه ممازحًا: "لو قدرتي تحملي أنبوبة الغاز حخليكي"، وفعلًا ذهبت أحاول حمل الأسطوانة الثقيلة لإثبات نفسي، فكان يزرع فينا حب فلسطين وأن ثمن التضحية غالٍ، إضافة إلى مجالس القرآن والعلم.
ملحمة وثلاثة أقمار
1 أيار (مايو) 2003م، أفقت على صوت الرصاص اقتحم فضاء المنزل، وصوت جنود الاحتلال يدخلون قلب المنزل، وصوت أبي يكبر وينادي على أعمامي، وكانوا يجهزون سلاحًا للدفاع، فحياتهم كانت معرضة للخطر دائمًا، لذلك كانوا مستعدين لأي لحظة.
ابتلعت الجدران صوت مخاوفي، وظل صدى الرصاص يتردد في ظلمة الليل، أستل أبي سلاحه وذهب لبيت مجاور وصعد عمي أيمن إلى سطح منزلنا، ودارت معركة وملحمة مدتها 16 ساعة، نحن خرجنا لبيت عمي نسلك أقل الطرق موتًا، نسير في حقل الموت، وأصوات الرصاص تتعالى وتزداد.
وسط الملحمة وصلنا خبر أن "الاحتلال سيقصف البيت"؛ لم أستوعب ماذا يعني قصف!، في هذه اللحظة أصيبت زوجة عمي، فقلت لطفلتها بكل براءة طفولية: "إذا إمك سافرت تيجوا تسكنوا عنا؟"، لم أعرف أن والدي سيرحل وسيهدم البيت وسيتغير كل شيء.
دقت ساعة الهدوء، افترش الصمت أرجاء المكان، أبلغنا بانسحاب الاحتلال وانتهاء المعركة، خرجنا من بيت جيراننا، كان بيتنا مستويًا بالأرض، استدرت نحو أمي التي امتلأت عيناها بالدموع، وكأن الرصاصة التي قتلت أبي اجتازت قلبها، حينها تهاوت أحلامنا كمدينة ضربها زلزال.
أصوات الناس في الخارج تفزعنا: "أبو حذيفة استشهد"، وتكرر الشيء نفسه، فقد استشهد أبي محمود وعمَّيّ أيمن ويوسف ثلاثة أقمار من عائلة أبو هين، أضاءوا ظلمة تلك الليلة، ظننت أن لحظة الوداع مؤقتة وسيعود ثانية، كنت أنظر إلى القمر وأشعر أن أبي يراني ويرد التحية من الأعلى، كبرت وما زلت أحدق بالقمر، لأجل أن يتكرر ذلك الشعور، لم أعد أرى من "أبي" سوى اسمه الذي نقش على شاهد من رخام، وذكريات على جدار قلبي الذي يأخذ بي دومًا ليظلني تحت اسم أبي فأحتمي به.