قائمة الموقع

"BDS" في مواجهة تسونامي التطبيع

2020-12-22T09:16:00+02:00
حيدر عيد - عرب 48

15 عامًا مرت على إطلاق نداء المقاطعة الذي أصدرته القطاعات العريضة للمجتمع المدني الفلسطيني وقواه الحية. وبما أن المقارنات التاريخية في النضال ضد أشكال الاضطهاد العنصري والإثني والاستعمار الاستيطاني مفيدة لنا، فلا يسعنا إلّا أن نلقي نظرة على ما أنجزته حركة المقاطعة الجنوب إفريقية في السنوات الأولى من انطلاقتها ومقارنتها بما أنجزناه فلسطينيًا. وكوني أكتب من غزة وأحمل درجة علمية من جامعة جوهانسبرغ، فإنني لا أتمالك نفسي عن عقد مقارنات كهذه، إذ إن الأفارقة السود في جنوب إفريقيا كانوا قد تعرضوا لمجزرة شاربفيل في عام 1961، التي راح ضحيتها 69 مدنيًا، ولفت هذا نظر المجتمع المدني الدولي لجرائم الأبرتهايد، ما أعطى زخمًا لحملة "بي دي إس" التي أُطلقت عام 1959 في جنوب أفريقيا، بعد تجاهلها بالكامل.

والمقارنة في هذا السياق من وجهة نظرنا كنشطاء مقاطعة نستلهم التجربة الجنوب أفريقية، تتمحور حول التحول الإيجابي الذي حصل بعد مجزرة غزة في العام 2009، والتي أطلقنا عليها لقب "شاربفيل فلسطين". كل نشطاء المقاطعة الجنوب أفارقة يؤكدون أن أُنجِزَ في فترة زمنية محدودة على صعيد مقاطعة نظام إسرائيل، يتخطى بمراحل ما أنجزته حركتهم. ونحن بدورنا نجزم أن السبب الأول يعود للدماء الزكية التي أراقتها قوات الاحتلال في حروب لا يمكن وصفها إلا بالإبادية في الأعوام 2009 و2012 و2014. ولزيادة الطين بلة، فإن إسرائيل فرضت حصارًا قروسطيًا همجيًا غير مسبوق على مليوني مواطن بطريقة تؤدي إلى موت سادي متدرج، وكل ذلك تحت مرأى ومسمع مجتمع دولي رسمي متخاذل!

الحقيقة أنّ رد فعل المجتمع الدولي الرسمي لا يرتقي إلى مستوى الجرائم الفادحة، جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب اعترفت بها لجان التحقيق الدولية التي حاولت إسرائيل إعاقة عملها.

وهنا تكمن أهمية نداء المقاطعة؛ ففي المجزرة الأخيرة في غزة (2014) على صعيد المثال، وتحت قصف الطائرات الإسرائيلية، أصدرنا 3 نداءات من غزة طالبنا من خلالها العمل على إنهاء عقود الأسلحة مع إسرائيل، وطالبنا بمسيرات ضخمة في العواصم العالمية مع تصعيد حملات المقاطعة. وهذا ما حصل، بمعنى أننا تعلمنا الدرس جيّدًا، وعملنا على مخاطبة الضمائر الإنسانية الحية بشكل مباشر، بعيدًا عن الحكومات المتواطئة حيث أننا قد وصلنا لنتيجة واضحة، ألا وهي أن أداة المحاسبة الفعالة في هذا اللحظة التاريخية ضد مستعمِرٍ مضطهِدٍ يمارس العنصرية، ولا يتوانى عن ارتكاب مجازر ذات نزعة إبادية، تكمن في تضامن أممي من الممثلين القاعديين للشعوب وليس من حكومات متخاذلة.

وإن كان المجتمع الدولي احتاج لأكثر من 30 عامًا للاستجابة لنداء المُضطهَد الجنوب أفريقي، فإن إنجازات حركة المقاطعة العالمية ضد إسرائيل، أكاديميًا واقتصاديًا ورياضيًا وفنيًا، تستطيع أن تفتخر أنها قد وصلت إلى تلك اللحظة التي سبقت إطلاق سراح نيلسون مانديلا في العام 1990. وهذا ما أقرت به القيادة اليمينية الصهيونية في إسرائيل من خلال حملة شعواء ضد نشطاء المقاطعة. ففي العام الجاري (2020) تراكمت إنجازات حركة المقاطعة تمهيدًا للانتقال لمرحلة فرض العقوبات على إسرائيل.

الشيء المؤلم والغريب في هذا السياق، هو أنه في الوقت الذي لا زلنا في غزة نتعامل مع ما خلفته الحروب الإبادية الأخيرة، وتحويل القطاع إلى أكبر معسكر اعتقال على وجه الأرض، يتم الإصرار على ارتكاب جرائم مختلفة من التطبيع وتقويض معايير المقاطعة عربيًا، وحتى فلسطينيًا. حقيقةً أننا لا نستطيع أن نفهم المنطق الذي يكافئ المُحتَل الذي يمنع عنا الماء والدواء والغذاء، بشكل يتناقض مع حقوقنا الأساسية التي كفلتها الشرعية الدولية، وعلى رأسها رفع الحصار الإسرائيلي الذي أدى لاستشهاد العديد من أبناء وبنات شعبنا الصامد.

أتذكر في هذا السياق إجابة أحد النشطاء الجنوب أفارقة على سؤال حول التطبيع: "ما الذي كان يشكل خطرًا أكبر؟ الأبرتهايد نفسه أم التطبيع معه؟".

- "لم نكن نفرّق بين الاثنين كثيرًا، إذ أننا كنا نعتبر أن بعض درجات التطبيع العليا لا تقل خطرًا عن جرائم النظام نفسه، لأنه لولا الدعم الذي شكلته الأنظمة المطبعة له لما عاش الأبرتهايد المُمأسس حتى عام 1994".

ولا شك أن انحسار التضامن العربي الرسمي مع فلسطين، بل تحوُل بعضه إلى عداء فج، يحتاج إلى مراجعات تعجز التيارات الفلسطينية السائدة على القيام بها! ولكن على الرغم من هذه المنغصات، فإن حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها ذات القيادة الفلسطينية، قد أنجزت انتصارات متلاحقة نستطيع الإقرار بأننا لم نكن نتوقع حجمها، وقد أثبتت عمليًا أنها أكثر الطرق نجاعةً للتضامن، وقامت بإحداث نقلة نوعية في دعم شعوب العالم للشعب الفلسطيني بمكوناته الثلاثة (في مناطق 67 و48 والشتات). وهكذا وصلنا إلى ما نستطيع أن نقول إنه بداية عزل إسرائيل في شتى المجالات الأكاديمية والاقتصادية والفنية والثقافية والرياضية، وحتى العسكرية. وأصبحت التيارات السياسية الصهيونية بتلويناتها المتعددة تعتبر أن حركة المقاطعة تشكل "خطرًا إستراتيجيًا ووجوديًا"، لأنها تحقق نجاحات غير مسبوقة في "نزع شرعية" نظامها القمعي المركب. ومن هنا يأتي خطر تسونامي التطبيع العربي في إطار التنفيذ العملي لـ"صفقة القرن" الأميركية، التي وبلا أدنى شك تسعى لفك العزلة المفروضة على دولة الأبرتهايد والاستعمار الاستيطاني.

إن ما يميز "منطق" التطبيع الخياني المتسارع يرتكز أساسًا على افتقار للوعي السياسي، والبحث عن الحلول والمصالح الشخصية، وهذا بلا شك من خصائص الأيديولوجيا الانهزامية. لا غرابة إذًا في بروز العقلية المستلبة ثقافيًا في زمن التطبيع، تلك التي ترى بعبثية المقاطعة وثقافتها، لأن هذه العقلية قد تم استيعابها في عملية تدجين فكري تناقض الحقيقة الوطنية للشعب الفلسطيني، الذي يرزح تحت الاستعمار الاستيطاني الذي ينفي وجوده. فالوعي السياسي يجب أن يبدأ برفض الشروط التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي وترامب ودول التطبيع على أغلبية الشعب الفلسطيني، وكذلك رفض "الفتات" الذي يقدم كمكافأة "للسلوك الحسن" لمجموعة منتقاة من العرب والفلسطينيين؛ وكما نظّر الفيلسوف التربوي باولو فيراري، فالمحتل المضطهِد يخلق نموذجًا يتماهى فيه المضطهَد معه، إذ يقلده في سلوكه وتفكيره وحياته، بل يفتتن المقموع بالقامع ويكون نسخةً عنه! وقد يكون هذا هو ما يميز المطبّعين الجدد.

وفي هذا السياق، فإنه تجب الإشارة إلى إحدى المهام التي يقوم بها نشطاء المقاطعة في الفترة الأخيرة، ألا وهي تفنيد ودحض كل مقولات المدرسة الانهزامية وروح الهزيمة، التي اتسمت بها تحليلات الانهزاميين والمطبعين الجدد الذين لا يتوانون، بدلًا من لوم الاحتلال، على لوم الضحية. وفي أحسن الأحوال يضعون الضحية على المستوى ذاته مع المجرم، ومعاملة من يقع تحت الاحتلال بالمعيار ذاته الذي يعاملون به من يمارس الاحتلال والإبادة البطيئة.

إن مدرسة التطبيع المهيمنة، مرحليًا، تطالبنا بالقبول بالاحتلال في أقبح أشكاله، مثل جدار الفصل العنصري، والمستعمرات ونقاط التفتيش والحواجز العسكرية والطرق الالتفافية، ولوحات السيارات العنصرية، وهدم المنازل والاعتقالات والحصار الإبادي القروسطي المفروض علينا. وهكذا تتحقق "يوتوبيا" التطبيع المذل!

المطبِّعون والانهزاميون يريدون منا أن نخوض المعركة حسب الشروط الإسرائيلية، وتبني ثنائياتها المفبركة، وليس على أساس مواجهة (إسرائيل) التي تستهدف كل مكونات الشعب الفلسطيني، صاحب الأرض والمؤيَّد بالقانون الدولي، والمرتكزات الأخلاقية والقومية والإنسانية ودعم وتأييد المجتمع المدني الدولي.

وهذا يحتّم علينا أن نعيد النظر جذريًا في مفهومنا للعلاقة مع الاحتلال، إذ إنه منذ عام 1993 وحتى اللحظة، كان التيار الفلسطيني الرسمي يتعامل معه على أساس علاقة بين "دولتين" متكافئتين في القوة، وخصوصًا في اللحظة الحالية، يتوجب علينا العودة إلى التعريف الأصلي لعلاقتنا مع إسرائيل كـدولة استعمار استيطاني كولونيالي، تمارس عدّة أشكال من الاضطهاد ضد كل مكونات الشعب الفلسطيني، ويتجلّى هذا الاضطهاد في الاحتلال العسكري المباشر في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتفرقة العنصرية ضد فلسطينيي 48، وهذا كلّه يرد في سياق استعمار استيطاني ممنهج منذ عام 1948 حتى اللحظة.

القانون الدولي على علاته، إلا أنه واضح في هذا الإطار، إذ يعتبر أن العلاقة بين الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة هي علاقة بين مُحتل وشعب يرزح تحت الاحتلال، وتبعًا لهذا القانون يتوجب على الاحتلال التكفل بالقضايا المدنية كافة كالتعليم والصحة، وحتى إيجاد حل عادل للقضية.

وبالتالي، يجب أن تكون علاقتنا مع الاحتلال علاقة مستمرة من الاشتباك، فكل ما يُفرض علينا من تعامل مع الاحتلال في القضايا المدنية هو "تطبيع قسري"، مكرهون عليه، وبناء على ذلك يجب التمييز بين هذا "التطبيع" والأشكال الأخرى من العلاقة مع الاحتلال التي تندرج في إطار "التطبيع الطوعي".

والحقيقة هي أن قوة خطاب المقاطعة تكمن في دمجه بين قول الحق، بذكاء، في وجه السلطة الدولية، وفي الوقت ذاته عدم التخلي عن الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني بمكوناته الثلاثة، أي المساهمة بطريقة فاعلة في تحرير العقل الفلسطيني بعد سنوات من التدجين والاستعمار والأنجزة!

إن مواجهة موجة التطبيع/الاستعباد الخيانية تتطلب تحرير العقل الفلسطيني والعربي من كل مخلفات إمكانية التعايش مع منظومة القهر المركبة في فلسطين التاريخية.

اخبار ذات صلة