فلسطين أون لاين

مهنة تغير واقعها بين الأمس واليوم

الساعاتي "أبو محمود".. 5 عقود في إعادة النبض إلى العقارب المتوقفة

...
الساعاتي فايق نصر
غزة/ يحيى اليعقوبي:

بين جفنيه، يُحكم الإمساكَ بمكبر نظرٍ أسود دون مثبت، يحاول إسعافَ إحدى الساعات التي توقفَ قلبُها النابضُ ولم تعُد عقاربُها تدور، مثل طبيبٍ منشغلٍ بإجراء عملية جراحية يتعاملُ بحذرٍ مع أجزاءٍ دقيقة وحساسة، هالة سوداء أسفل عينيه تروي حكاية خمسة عقودٍ ومسيرةً طويلةً في العمل، بملقط صغير تمسكه يده اليمنى ينتشل أجزاءً بداخل حاوية صغيرة.

يمر شعاع بصره عبر عدسة المكبر فيرى الأجزاء مكبرة، يجلس على كرسي أمام قاعدة خشبية عمرها من عمره تكثر بها التعرجات والشقوق التي تتشابه وتتقاطع مع شقوق وتعرجات يدي ووجه الساعاتي فايق نصر، تحمل تلك القاعدة رفوفًا وأدوات صيانة للساعات وبداخل درجها الوحيد ساعات مستعملة معظمها جديد، سوى تلك الساعة القديمة ذات الأرضية الخضراء والعقارب والإطار المرصع بلون الذهب من نوع "أوميغا"، لا يزال يحتفظ بها.

"الساعاتي" نصر يكنى "أبا محمود"، طرقت رحال عمره الخامسة وستين عامًا؛ ممتهن صيانة الساعات منذ 1975م، وهو العام الذي ورث فيه المهنة من والده اللاجئ من مدينة يافا، الذي ورثها عن والده كذلك عام 1936م، عرف ميدان "الساعة" في المدينة الملقبة بـ"عروس البحر" جده قبل أحداث النكبة سنة 1948م، واليوم يعرف سوق "الزاوية" بمدينة غزة "الساعاتي" أبو محمود.

في الخارج جلس العم أبو محمود على كرسي بلاستيكي لونه يشابه لون سترته "البنية"، يحتمي داخلها من نفحات كانون الأول/ ديسمبر الباردة؛ وقد ترك القاعدة الخشبية المتبقية من مشروع العائلة داخل محل صانع الأحذية، فلم يبقَ له مكان يؤويه، إذ سلم قبل خمسة أعوام محله الذي يبعد عشرات الأمتار عن مكان جلوسه بالسوق، في ذلك المحل عمل هذا الرجل مدة 62 عامًا، منها 22 عامًا كان يساعد فيها والده قبل أن يرث المهنة ولم يرث المحل المستأجر الذي يملكه آخرون، وسلمه لأصحابه قبل خمسة أعوام، وبقي هو وقاعدة خشبية محاطة بألواح زجاجية وبعض الرفوف من الأعلى، يعمل بها ويعود ببعض الشواقل لعائلته.

يوم مكتظ بلا زبون

ينظر إلى الفضاء الواسع حوله، في يوم خميس بدا السوق فيه مكتظًّا بالزبائن قبل إغلاق تام في قطاع غزة، يومي الجمعة والسبت، إجراء احترازيًّا لمواجهة فيروس كورونا، إلا أبا محمود الذي لم يرده أي سائل اليوم، ببريق خافت من عينيه، ونظرة حسرة طبعتها ملامحه، يجيب بعفويةٍ عن سؤال صحيفة "فلسطين" هل صلح ساعات متعطلة منذ الصباح لوافد جديد: "يا ابني، الناس تحولت للجوال؛ بتلاقي فيه ساعة، وتلفزيون، بطلت تطلع على الساعة اليدوية (...) كمان ساعات اليوم بلاستيك ورخيصة، عشرة، عشرين شيكل، بتخرب برميها وبشتري غيريها، ليش يجي يصلحها؟!، اللي صنعوها، رخصوها عشان هيك!".

ينظر إلى السوق الواسع حوله، لكن عيناه وصوته تأخذك إلى مشاهد حدثت هنا قبل خمسة عقود، تحركها ذاكرته: "كانت تأتينا ساعات "الجوفيال" السويسرية التي تعتمد على التعبئة اليدوية كل 24 ساعة وتعمل على مبدأ الدوران للأمام ولا تعود للخلف، بإدارة مفتاح الساعة الخارجي للأمام، فيمتلئ "الزنبرك" (نابض) بالزيت، فيحرك التروس التي تشغل الإبرة فتعمل الساعة، وبعدما تنتهي المدة يأتي الزبون لتكرار الشيء نفسه، وهي ساعة تعيش خمسين أو سبعين عامًا".

أيضًا، من الساعات التي تستحضرها ذاكرة العم أبي محمود ذي الملامح الداكنة بعض الشيء وشعر أبيض يغطي رأسه؛ ساعة يطلقون عليها اسم "الجيبة" معلقة بسلسلة مثل قلادة توضع في الجيوب، وساعة "الجني" موسومة برسمة سكة حديد، وساعة "الأوميغا"، بإطار مطلي بالذهب، وساعات المنبه التي كان الناس يأتون منتصف شهر شعبان لضبطها تحضيرًا لاستقبال شهر رمضان.

يضع يديه على مقبضي الكرسي البلاستيكي، تخرج منه ضحكة في الهواء وفي صوته حنين لتلك الأيام التي أفلت: "كناش نفضى بالمرة، يوميًّا نصلح عشر ساعات تقريبًا (...) كان دخلي اليومي يعادل ضعفي دخل عامل بناء في الأراضي المحتلة سنة 1948م".

يفرد كفيه: "اليوم يا دوب بنقدر نجيب حق أكلة في الأسبوع، والباقي الله يعلم كيف بنقضي أيامنا، الوضع شديد يا ابني".

سخرية ثم سيطرة

قبل أربعة عقود تقريبًا، كانت الساعات التي تعمل على البطارية محط سخرية من الناس؛ فلا يدوم عمرها خمس سنوات، مقارنة بالساعات التي تعمل بنظام التعبئة وتحريك المفتاح، لكن لماذا فضلت الناس البطارية على التعبئة؟، الإجابة جاهزة بفم العم أبي محمود، احتاج السؤال فقط لتحريرها: "الناس بدها تتريح، من مشاكل التعبئة اليومية، بغض النظر عن عمر الساعة".

أصبح يعمل على قارعة الطريق على أحد جوانب السوق قبالة المسجد العمري الكبير، لكنه غير نادم على تسليم محل مرت به جميع مراحله العمرية، هنا علت ملامحه نظرة رضا أو اقتناع: "ما بتحسر ولا حاجة، الإيجار غالي، ولو ما طلبهوش أصحابه كان أنا سلمته، لأن الشغل ضعف ومش جايب همه".

لتلك النتيجة سبب، فمعظم ساعات اليوم "تجارية هشة"، لا تدوم، وهذه سياسة تجارية من صانعيها، "ساعات اليوم التجارية، لا تمسكها براغٍ كي تفكك وتصلح، وعندما تأتينا نغير بطارية، أو عقربًا، أو الزجاجة، وهي ضعيفة، وتروسها بلاستيكية، وغطاؤها رقيق جدًّا قد يتفكك من تلقاء نفسه، وكأنَّ الذي صنعها وضع في حسابه أن يغيرها الزبون ويرميها، وقد تنتفخ أو تذوب من حرارة البطارية وعندها لا يمكن تصليحها" بعد تلك المقدمة وصف الكثير من ساعات اليوم بـ"اللعبة" أمام جودة الصناعة القديمة.

غاص في تفاصيل الساعات القديمة، مثل مغترب يحن إلى مكان عزيز عليه، فقد كانت تلك مساحة الساعة الدائرية بين يديه الشيء المفقود حتى اليوم عنده: "معدنها متين، بها أحجار زجاجية تزيد من عمرها فتعيش طويلًا، يأتيك الزبون بعد ثلاثين عامًا لتغيير زجاج الساعة، أو جلدها، وتلك الساعات كانت تتحمل الضغط بخلاف ساعات البطاريات التي تحتاج إلى شحنة كهربائية بسيطة كي تدور وهي مع المدة تذوب أو تنتفخ ولا يمكن صيانتها حينها".

بعد المقارنة السابقة يدلل على متانة الساعات القديمة، بموقفٍ جلبه من أعماق الذاكرة: "في المسجد الكبير بيافا توجد ساعة منزلية تعمل بنظام التعبئة عمرها اليوم 250 عامًا، وعندما كنا نزور المدينة بعد احتلالها وتهجيرنا منها كان القائمون على المسجد يطلبون من والدي تصليح الساعة ذات العقارب الكبيرة، وما زالت تعمل حتى اليوم". 

حرك يديه عن مقبضي الكرسي البلاستيكي، عدد على أصابعه الساعات الجيدة في نظره حاليًّا: "المسيطرة هي "رولكس"، وكذلك الأوميغا التي حافظت على نفسها، والبتك فيليب"، ثم تطير منه ضحكة: "زمان كان لازم لما تتجوز العروس تجيب ساعة مع المهر".

بين أبو محمود، وسوق الزاوية حكاية ارتباط متجذرٍ بداخله، يأتي كل يوم الساعة الثامنة صباحًا ويغادر السوق الثالثة عصرًا، ولا يزال الأمل يتجدد بداخله في أن تتحسن الأحوال، رغم مرارة واقعه الحالي؛ فلديه أربعة أبناء، أكبرهم شاب منضم إلى طابور البطالة، "صرت مديون، فش دخل يغلق المصاريف، بالكاد أعود بثمن طبخة" يستمر هذا التراجع منذ خمس سنوات، بسبب الحصار المفروض على القطاع، ما جعل  اهتمامات الناس تنصب على الاحتياجات أكثر من الكماليات، يبحث هذا الرجل الذي يداوي أعطال الساعات عمن يداوي جراحه، ومن يدير عقارب الأمل المتوقفة بداخله، ويمدها بترياق الفرح ليشفى من مرض الفقر والبطالة الذي أصاب مجالات وقطاعات كثيرة في غزة.