قائمة الموقع

منار.. عروس تنتشل فارسها من القبر

2020-12-16T08:43:00+02:00
العقد الثاني في "القبر المُعتم"؛ مازال يتنفس الأمل، وينبضُ قلبُهُ بالحياة، وتسري في عروقه أمنياتٌ عتيقة ينفضُ بها الغبارَ عن سنوات عمره التائهة بين جدران أربعة، لا نافذة فيها سوى صوت حاسم من ست حروف، تسلل إليه، بعيد بالمسافات، قريب إلى دقات فؤاده، عابرٍ للقضبان: "موافقة".
في المكالمة الثانية بينهما، أواخر 2018م، اندفع قلب أسامة الأشقر المحكوم بثمانية مؤبدات و50 سنة، إلى عرض الخطبة على العشرينية منار خلاوي، بكلمات ليست كالكلمات: "أنتِ زي أختي، واللي برضاهوش لأختي برضاهوش لبنات الناس، بدي أسألك سؤال وتجاوبيني بكل صراحة أو فكري وبعدها بتجاوبيني، أنا بفكر أطلب إيدك من أهلك".
صدمها الطلب وغلبتها المفاجأة، لكن قلب منار ابنة قرية وادي رحال قضاء بيت لحم كان سريعًا، حين رد بالإيجاب في المكالمة نفسها، وكان أمامهما الكثير من التحديات حتى يخطبا ويعقدا قرانهما، ومازال ينتظر الشابة والأسير مستقبل مُقيَّدٌ باحتمالَيْن.

بدأت الحكاية تنسج فصولها في نهاية 2016م، عندما تعرّف أحد أقرباء منار إلى أسامة داخل السجن، وبات اسمه يتردد إلى مسمعها، "أكتر إشي لفتني اسمه، كان يتكرر، وأنا مهتمة بقضية الأسرى وكنت دايمًا كل ما أسمع اسم أسير أحب أعرف كم حكمه وليه انسجن" تروي منار لصحيفة "فلسطين".

بَحَثَت عن أصل القصة، وعثرت على ضالتها، إنه شاب طارده الاحتلال في سن 18 عامًا، لا لشيء إلا لأنه كان فاعلًا في خدمة قضيته وحمل هم وطنه، ومن هنا بدأ إعجابها به.

منار كبرى ثلاث بنات في أسرتها، ولها أخ واحد، عاشت طفولتها على وقع الاحتلال، وصدمتها جرائمه، كلما قفزت بشاعتها إلى مرآها عبر التلفاز، وكبر معها هذا الهم.

شبّت منار، والتحقت بكلية الإعلام، ومازال إيمانها يتضاعف بأنها "خلقت على أرض ليست عادية"، تفسر: "لأن الفلسطيني وجد هنا لمهمة يؤديها، وتفكيري كان أنني لو ارتبطت بإنسان أسير فهذا جزء من رسالتي على هذه الأرض".

عرفت منار عبر التواصل والرسائل أن شخصية هذا الإنسان "مميزة، وأنه طموح، ويمتلك عزيمة وقوة دفعته للسير في طريق النضال، حتى بعد هذه المدة في السجن زادت عزيمته ولم تنقص، وأنه ليس مجرد رقم، بل لديه طموح وشخصيته معروفة بين الأسرى بشهامته وكرمه حتى الصغار بالسن منهم يعتني بهم".

لم تلتقِ منار وأسامة قط، ولم تره إلا في الصور، وكانت المكالمة الأولى بينهما محدودة، وشكرها فيها على اهتمامها بالأسرى.

وعندما صارحها في المكالمة الثانية بعد أشهر معدودات، استغرب سرعة ردها، ونبهها إلى أن الطريق طويل، وقال لها: "بديش أظلمك وأكون أناني بجوز أطلع من السجن وبجوز لا، إنت قد هالطريق؟"، فطمأنته إلى إدراكها عذابات الأسر.

منار كأي فتاة أخرى تحلم بأن يكون خطيبها بجانبها، يطيران كفراشتين ويحطان على الورود في فصل الربيع ويستمتعان بألوانه ورونقه، وأن يؤسسا أسرة، ولكنها سمعت كثيرًا عن زوجات الأسرى، ولطالما أعجبها صبرهن ونضالهن.

اجتمع قلبا أسامة ومنار، ونبضهما، وإن افترقت الأجساد، وتقاسما الطموح والأمل في أن يلتقيا خارج قضبان السجن، واتفقا على ما شبهاه بـ"دستور" يلزمان نفسهما فيه الحصول على درجة الدكتوراة، وكيف سيجمعان رأس المال ويشتريان بيتًا.

وأسامة الذي بلغ 38 عامًا لن تكون هذه المرة الوحيدة التي يعاني فيها في طريقه إلى طلب العلم، وهو الذي أنهى بمرارة الثانوية العامة، وتقدم لنيل امتحاناها مرتين إذ تدخلت إدارة السجن في أولاها ولم ينجح رغم يقينه بجدارته.

قررا الخطبة، لكن الطريق إلى ذلك كان "وعرًا"، واصطدما بصخرة رفض والدي منار.

انهمر المطر

"كان صعبًا على الأهل أن يتقبلوا، خاصة إمي وأبويا، وضلينا نحاول معهم كتير، وفي كل مرة تتدخل واسطة جديدة مرة طولكرم ومرة من بيت لحم ومرة من رام الله، وهكذا على مدار ستة أشهر".

اعترت والدتها مخاوف من أن ابنتها "تربط نفسها بالمجهول"، فكرت مع نفسها وقالت: "يمكن صعب يطلع، هدا أسير".

وأخيرًا، وافق أبواها لرغبتها الجامحة والحاسمة.

- "آمنت أنا ومنار أن قرارنا بالخطوبة هو تحدٍّ للقيد وانتصار على الجلاد، كانت موافقة الأهل على خيارنا يوم عرس وطني كبير (...) ففي 15/11/2019م كانت سماء صيدا وواد رحال مجللة بالفرح، فانهمر المطر بعد انحباس طويل، إيذانًا برحلة حب طاهر نقي جميل، تزينه روح منار الجميلة التي تغمر أيامي بالفرح والأمل، مع منار أحمل الحب لكل الناس، وأزيد تعلقًا بوطني وقضيتي، معًا نمضي لنجعل الغد أجمل لأبنائنا، لأبناء شعبنا، مازلنا على الطريق، تحمل منار كل يوم هموم الأسرى وقضيتهم للعالم" يخطُّ أسامة في كتاباته.

 

جاءت جائحة كورونا لتصب الزيت على نار الشوق، وتسببت بفرض إغلاقات متكررة، قبل أن تحل بأسرة أسامة مصيبة وفاة والده المريض في حزيران/ يونيو 2019م.

16 تشرين الآخر/ نوفمبر 2020م تهافتت فيه الأنظار إلى حساب أسامة الذي تديره منار في فيس بوك)، إذ كان منبرًا لمنشورٍ غير عادي يُشهر عقد القِران، بعد يوم من حفل إطلاق كتابه "للسجن مذاق آخر"، ليس بعيدًا عن الذكرى الـ19 لأسره.

- "برغم كل شيء والتضاد وحالة المجهول إن الصبر والإرادة والمثابرة قادرة على تحقيق المعجزات، فاليوم نعلن انطلاق الجزء الأهم من حياتنا التي تحولت من صفة الـ"أنا" إلى صفة الـ"نحن"، والرباط المقدس الذي يجمعني الآن بمنار أصبح حقيقة وشرعًا، وهي الآن الشريكة الأولى التي أتقاسم معها وعورة هذا الدرب الطويل، فنحن الآن زوجان متعاهدان على الوفاء والاستمرار حتى تحقيق كل ما نصبو إليه".

 

حرمها أسر أسامة ارتداء الأبيض، لكن الزغاريد علت وتنافست في أجواء بيت لحم، وطولكرم حيث كان يقطن أسامة في قرية صيدا، نفذت الإجراءات بالوكالة عن العريس الحاضر الغائب.

وضعت "حربُ انتظار" عقد القران أوزارها، لكن هذا ليس حال الشوق المحتدم.

جددت منار العهد في الذكرى الأولى لخطبتهما: "عهد قطعناه على أنفسنا أن نمشي معًا طريق الحب والوفاء المكلل بالأمل والإنجاز والنجاح (...) ما يقارب العقدين من الزمن قضى بطلي الأسير في مقابر الأحياء، التي قرر الانبعاث منها ليثبت للعالم أجمع أن الأسير الفلسطيني ليس مجرد رقم يعد ثلاث مرات في اليوم (...) أبارك لأسامة ولإخوته في القيد كافة إصدار باكورة إنتاجه الأدبي "للسجن مذاق آخر"، الذي لن يكون الأخير؛ فنحن لم نبدأ بعد".

كسهمٍ ثاقب حط في كبد الهدف، كانت إنجازات أسامة تتسارع في الكتابة، لكن منار هي "كلمة سر" في ذلك.

- "أصبحت منار الحب والعين والصوت المغرد للبعيد، ناقلًا همومنا ورسالتنا للعالم أجمع، فبجهدها استطعت أن أنشر عشرات المقالات في عشرات الصحف والمواقع العربية والعالمية، لولا جهدها معي ما كان هذا الكتاب ليصل لكم".

أراكِ هناك توقظين الفجر عند البوابة الأخرى للحلم" يقول أسامة.

نجح أسامة في إيصال كتاباته لمنار، مع أسرى تحرروا من السجن، وتمكن من نشر أزيد من 80 مقالًا منذ شباط/ فبراير 2020م، إلى جانب كتابه الذي تسلل بأوراق ودفاتر وطبعته منار، ولم تكن هذه بالعملية السهلة أمام مصادرة إدارة السجن الرسائل بين مدة وأخرى.

"للسجن مذاق آخر" هو مرآة حياة السجن وتفاصيلها من أول لحظة يبدأ فيها السجان سلب زهرة عمر الفلسطيني، وهو في جانبه الآخر توعوي للشباب في كيفية التعامل مع غرف العصافير وأساليب المخابرات لئلا يقعوا في شباكها.

 

"خاوة"

تلتهب المشاعر كبركان من الشوق، إنها حياة لا هدوء فيها ما بقي أسامة خلف القضبان، أما عقد القِران فأشعل مرحلةً بدت "كعض الأصابع" في انتظار زيارته.

لم يكن السجان الذي يضيق الخناق على الأسرى ليسمح لمنار بزيارة أسامة، لكن ارتباطهما رسميًّا فتح بوابة الأمل في لقائه.

نبأ ثقيل توارد إلى منار بإلغاء الاحتلال الزيارات في كانون الأول/ ديسمبر 2020م، في حين شدها الحماسُ لرؤيته، وإنْ كانت تعرف أنه ستحول دون عناقهما حواجزُ السجّان.

اختلط على منار ما يمكن أن تقوله لأسامة في لقائهما الأول:

- "صعب أتخيل، يمكن راح أعيط، يمكن راح أكون كتير مبسوطة".

- "بديش ياكي تعيطي" أوصاها أسامة مسبقًا.

في مشهد كهذا ستمتزج حتمًا المشاعر بين فرحة وحزن وقهر –بهدوء يخفي ثورة تتابع منار- المدة المتاحة في أي زيارة هي 45 دقيقة فقط لا غير، تمضي مسرعة، ثم يدير الزائر ظهره ويغادر المكان ويترك الأسير في السجن، هذا شعور القهر.

كعصفورين يغرد كلٌّ منهما للآخر:

- "مناري اليوم إلك وغدًا إلك والأمس كان بانتظارك.. يا رب.. الحب الكبير.. مناري"، "أيها المنار المضيء ليلًا ويشعل قلبي الحب نهارًا ويتركني مشتاقًا بقية النهارات الجميلة، يا حبي الأول ويا شوقي الأكبر، أسامة حبيبك".

- "أي سعادة أعظم من حب يضم أشواقه داخل الأحشاء بينما يحمل للناس رسالة قضية عادلة، أي سعادة أجمل من النضال من أجل ما تحب ومن تحب، أي سعادة أعظم من الانتصار بالحب والأمل على الجلاد وأسوار السجن، أي سعادة أعظم من انتظار فارس الأحلام وهو يأتي على صهوة المجد المجلل بهالة الأبطال، ويهبط على بساط الوعد، ويعبر من تحت أقواس النصر؟!

لأسامة الذي يكحل جفون الكلمات بحبر الروح، عهد صبية حملت جرح البلاد، وأنّات أمهات الأسرى، وحزن الأطفال المحرومين من آبائهم، وعذابات الأسرى، وعد الانتظار، وليس يوم اللقاء ببعيد".

أكثر ما يردده أسامة لمنار: "كنت عايش جوا قبر وإجيتي طلعتيني منه، طلعتيني من العتمة للضو"، وتقول منار: "أن يخطب الأسير ويكون عائلة خارج السجن أمل كبير يشده ويتمسك به".

منار وأسامة بين احتمالين: أولهما أن يتحرر بصفقة تبادل -كما تأمل- وثانيهما -هو الأقسى- أن يبقي الاحتلال عليه أسيرًا، لكن في كلتا الحالتين تدرك الشابة العروس أنها تحملت مسؤولية أسير ستكون له كل شيء وستحمل اسمه، خاصة أن لأسامة مشاريعه وخططه في الحياة.

"أنا وأسامة حابين نوصّل رسالة إنه الحب والأمل يصنع المعجزات وبيحققها رغم الظروف الصعبة والقاهرة، ما دامت توجد إرادة".

وإنْ طالت مدة الأسر، فقد يفكران في الإنجاب عبر النطف.

"في أمل وخاوة، أسامة رح يطلع وجميع أسرانا الأبطال وأسيراتنا الماجدات بعرس وطني كبير" هذا ما تثق به منار.


 

 

 

اخبار ذات صلة