لا يمكن لذكرى انطلاقة حماس أن تمرّ على من واكب بداياتها من بنيها دون أن يستشعر في صدره دفقات من حنين خاص، ودون أن يجلل وعيَه طيفٌ واسع من الصور والمشاهد الحية المسافرة إليه من تلك الأيام التي كانت وافرة البركة وسخية النور، لأنها رعت البذرة ووفرت لها عناصر الكمال لكي تنمو على نحو متسارع، منتجبةً أنبل فرسانها لحمايتها من البوار.
تقليد إحياء ذكرى انطلاقة الفصائل الفلسطينية بات من لوازم يومياتها التقليدية، وإذ يحيي كل فصيل ذكرى انطلاقته مرة في العام، فإن الفرق يظلّ شاسعاً بين من لم يبقَ لديه غير ذكريات البطولات الغابرة ليتغنى بها في يوم ميلاده، ومن يجد باستمرار أحداثاً ومناسبات ومستجدات كثيرة تدلل عليه، وتقول إنه ما زال كثيف الحضور، ومتقدماً في مسيرة التعب الكبيرة، حاملاً مشاعل النور، ومحاولاً أن يبدد العتمة من دروبه ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
حماس، ليست التنظيم الفلسطيني الوحيد الذي ظل في عين التاريخ، فكل تنظيم ظلّ ملتصقاً بمبادئه الأولى، وساعياً نحو أهدافه، سيبقى فتياً وقادراً على التجدد، لكن حماس استطاعت أن تظل عنوان المراحل كلّها بجدارة ومثابرة، فمثلما أن سنوات الانتفاضة الأولى قلّدتها وسام العمل العسكري النوعي الذي أنعش قلب الفلسطيني في كل مكان، فإن هذه السنوات الصعبة، المدججة بالتحديات الجمّة ظلّت تقلّد حماس وسام الريادة، وخصوصاً في حفاظها على نقاء المعاني الأولى التي صاغت وجودها، وفي تطورها النامي وهي سائرة نحو أهدافها، وفي استحداثها فكرة التطوير العسكري، وتشكيل سياج من الردع للأعداء، وإنشاء كتائب مدربة من أبنائها، وهو النمط الذي طبقته فصائل أخرى، في ذلك المكان المستظل بحكم حماس، والناطق بلسان المقاومة ومدافعة الصعاب؛ غزة.
في هذا العام الأخير، قدمت حماس مبادرات كبيرة وجريئة على صعيد محاولات ترميم البناء الفلسطيني الداخلي، إدراكاً منها لحساسية الظرف، ومحاولة لكسر جمود المرحلة في ساحات الصراع الأهم؛ الضفة الغربية والقدس، وحتى لا تظل شماعة الانقسام حجة لمحترفي الثرثرة والهجاء العدمي في المجالين الفلسطيني والعربي. لم يكن التقدم على هذا الصعيد مثمرا، وظلّ واقع الملفات الشائكة فيه على حاله، وأسباب هذا كثيرة، لكن النتيجة أن تمايز المناهج لا بدّ أن يفرض نفسه دائماً في المتون كما الهوامش، وهو تمايز قديم وكبير، وحين يصطدم بنوايا انتهازية لدى بعض الأطراف، وسوء توظيف لورقة المصالحة الداخلية فسيكون لزاماً علينا أن نتخفف من التوقعات العالية المحفوفة بالشعارات الكبيرة الخاوية من المضامين العملية، غير أن هذا كله لا ينفي ضرورة أن يظل صاحب الدور الكبير، والمسكون بالحرص الحقيقي على المصلحة العامة متحرياً عوامل التوافق ومحاولاً استثمارها، ومستفرغاً جهده فيها وباذلاً ما عليه إزاءها.
وفي هذا العام الأخير، تعلّقت أهداب كثير من المأسورين بحواف نوافذ زنازينهم منتظرين وفود الضياء، فلعله أكثر عام ترددت فيه أخبار صفقة تبادل الأسرى بين حماس وكيان الاحتلال، صحيح أنه لا يبدو أن هناك تقدماً فعلياً في هذا الملف، بسبب تعنت الاحتلال بالدرجة الأولى، ومراهنته على عامليّ الوقت والحصار، لكن مجرد وجود رصيد ما لدى حماس من شأنه أن يحمل الحرية لأعداد من الأسرى يبقى أمراً باعثاً على الأمل، أو مديماً له في عيون وقلوب أولئك الأبطال المصفدين بالقيود، المحكومين بسنوات لا نهاية لها، إلا بحرية على جناح طائر عملية التبادل، التي ستظل متوقعة ومرتقبة، ما دامت هناك ثقة بمن يصونون حلم الحرية، وبجدارتهم بأن يكونوا عنوانها، مثلما ظلوا، بدوام انطلاقهم وسعيهم للإنجاز، عنوان الحرية الكبيرة، المنتظرة، ولو بعد حين.