فلسطين أون لاين

في محله العتيق بسوق فراس.. "شاكر" قضى شبابه وشيخوخته

...
غزة- مريم الشوبكي:

وقف بالقرب من محله آتيًا للتو من بيته، الذي لا يبعد سوى أمتار قليلة عن سوق فراس، كانت عقارب الساعة تشير إلى الـ11 ظهرًا، متأنق بجاكتيه الصوفي البني "المُونس" الذي يحكي تاريخ مهنته بيع الملابس المستعملة، التي يعد من أقدم ممتهنيها في قطاع غزة.

لون عينيه كان يحاكي زرقة بحر يافا التي هجرته منها العصابات الصهيونية قسرًا في نكبة 1948م، وهو لم يتخطَّ العامين، في وسط سوق فراس استأجر والده محلًّا صغيرًا في خمسينيات القرن الماضي، وبدأ يبيع فيه الملابس المستعملة التي كانت تصل إلى القطاع من أمريكا عبر البواخر، كما يقول.

كان شاكر السنداوي (74 عامًا) الولد الكبير لأبيه بعد وفاة أخيه الأكبر بمرض الحصبة، تولى هو مهام العمل معه منذ أن كان في الـ15 من عمره، تشرب المهنة منه وبدأ يرافق والده لشراء أكياس الملابس، كان يصل سعرها لنحو 10 ليرات فلسطينية في ذلك الزمان، وفق إفادته.

شراء الملابس المستعملة ليس حكرًا على الفئة الفقيرة في المجتمع، يقول شاكر لصحيفة "فلسطين": "بل كانت الطبقة الثرية تقبل على شرائها كثيرًا، وكانوا يتباهون بأنهم يلبسون قطعة مميزة لا مثيل لها في السوق".

في زمن العم شاكر لم تكن صناعة الملابس الجاهزة رائجة، يضيف: "بل كان الناس يقصدون الخياطين لكي يفصلوا لهم الملابس بعد شراء القماش وأخذ المقاسات، فكانت ملابس البالة شيئًا مختلفًا لم يعتده الناس".

بقي شاكر ملازمًا لوالده حتى وفاته في عام 2000م، تسلم هو زمام الأمور، واستأجر محلًّا يبعد قليلًا عن محل والده القديم، واستمر على النهج نفسه برفقه ثلاثة من أبنائه، أما الرابع فلم يبعد كثيرًا عن المهنة وفضل أن يعمل خياطًا.

كانت مهنة البالة "أيام زمان مربحة" للعم شاكر، بعكس ما عليه هذه الأيام، يتنهد ومع تنهيدته اختنق صوته الهادئ: "كانت الصنعة زمان مربحة، ولكن الآن لا نكاد نجني ما يؤمن قوت يومي مع زوجتي وابني وأطفاله".

منذ 10 سنوات سلم العم شاكر المحل ليديره ابنه الثاني من حيث الترتيب، الذي وقف وهو يلف الكوفية حول رقبته، يناقش الزائرين.

تسلم ابنه دفة الأمور يرجع الوالد سببه إلى تقدمه في العمر، وعدم مقدرته على الوقوف ساعات طويلة.

ولكن العم شاكر لم ينقطع عن زيارة السوق يومًا، بل يداوم على القدوم إلى فراس مرتين على الأقل أسبوعيًّا.

الحنين إلى كأس الشاي هو الذي يأتي بشاكر إلى السوق، فهو ألف مذاقه منذ عشرات الأعوام، ويؤكد أن مذاق شاي جاره الذي ورث المهنة عن والده لا يضاهيه أي شاي آخر.

أخذ شاكر قسطًا من الراحة بعد سرد كم من الذكريات، ليتلذذ بشرب الشاي الساخن الذي أتاه بكأس من الكرتون، ثم تابع: "بيع البالة لم يعد كما كان، لكني رفضت تركها، بل حرصت على توريثها لأبنائي لأننا لا نعرف مهنة غيرها".

ما يزال سوق فراس محتفظًا بأصالته؛ فالمحلات تحتفظ بعبق التاريخ؛ فهو من أقدم الأسواق في القطاع، وتعمل بلدية غزة على تطويره وترتيبه.

"ماذا يعني لك سوق فراس؟"، قبل أن يجيب تدخل ابنه مبتسمًا: "فراس بيته الأول لأنه منذ صغره يقضي فيه معظم ساعات يومه".

"نشأت ألفة بيني وبين المكان الذي عشت فيه طفولتي وشبابي وكهولتي وشيخوختي أيضًا" يقول المسن.

صدح أذان الظهر في أرجاء السوق، وضع شاكر كأس الشاي الفارغة من يده، وقام مسرعًا يريد تأدية صلاة الظهر، ثم الانصراف إلى بيته ليتناول طعام الغداء ويأخذ قسطًا من الراحة، بعد نحو ساعة من استعادة ذكريات المهنة الأقرب إلى قلبه.