قائمة الموقع

"عروس بلاطة".. 33 عامًا لم تجفف دموع الفراق

2020-12-10T10:13:00+02:00
fc5e844c-4c6f-4441-a738-339417ae50ea.webp
فلسطين أون لاين

"بهروا الدنيا.. وما في يدهم إلا الحجارة.. وأضاؤوا كالقناديل، وجاؤوا كالبشارة، قاوموا.. وانفجروا.. واستشهدوا.." نزار قباني.

11 كانون الأول (ديسمبر) 1987م، كل خصال الفرح تضيء وجه الفتاة سحر الجرمي (20 عامًا)، في زيارتها إلى شقيقها الأسير نضال الذي زجه الاحتلال في سجونه أربع سنوات ولم يتجاوز من عمره حينها 15 عامًا، بدت مختلفة الأوصاف وكأنها تزف إلى عرس، دخلت مع والدتها السجن، وجالت فتاة مخيم "بلاطة" بمدينة نابلس السجن للاطمئنان على الأسرى، وهي معروفة بأنها "بألف رجل"، تهب دائمًا للتصدي والدفاع عن المخيم من جنود الاحتلال.

في زيارتها إلى السجن وصلت قبالة الشباك الحديدية أمام شقيقها الفتى ومدت يدها لمصافحته، اعتقد أنها يد والدته فقبلها كعادته، حتى سمع ضحكات أمه فانتبه لخطئه، وبعد نصف ساعة انتهت الزيارة، وعادتا إلى المخيم تحفه دعواتهما ونظرات أخيرة ألقتها سحر عليه.

كان صوت عقارب الساعة حينما علا صوت صليل أجراسها عند الثانية عشرة ظهرًا يوم الجمعة كفيلًا لإيقاظه، إيقاظًا ليس به ماء يسكب على الوجه، بل استشعار داخلي، ما إن بدأت إذاعة "مونت كارلو" التي يتابعها الأسرى تصدرُ أخبارًا عاجلةً، صوت المذيع وصل إلى أذني نضال: "مواجهات بين شبان مخيم بلاطة وجنود الاحتلال"، كان قلبه أيضًا ينصت، يقترب من صوت المذياع، كان قلبه هناك في المخيم، وفي قلب المخيم تنادي سحر: "اطلعوا يا نسوان، راحوا الشباب"، وانتفض المخيم في وجه الاحتلال، عشرات الإصابات بدأت تنقل من الخطوط الأولى التي توجد فيها سحر إلى المشفى.

في منزل الجرمي، خلف طرقات الباب المتواصلة صوت ينادي على والدة سحر: "اطلعي؛ بنتك استشهدت، سحر راحت، تعالي شوفي بنتك قبل ما ياخدوها"، لم يكن خبرًا فحسب بل نعيًا أو صاعقة نزلت على قلب أمها، خبر أيضًا نقلته الإذاعة إلى شقيقها نضال داخل السجن، اهتز معه قلبه الهش أمام قسوة رحيل أخته الكبرى، سقطت منه دموع حزنٍ مرت على خده وألقت حملها الثقيل عليه.

سرقة أعضاء

تلك الدموع التي سقطت قبل 33 عامًا لم تجف، لم تنسه ثلاثة عقود مرارة رحيل سحر، فتح الحادي عشر من كانون الأول (ديسمبر) الجرح في قلبه، على الجانب الآخر من الهاتف يجهش صوت نضال الذي وصل عمره إلى الثامنة والأربعين بالبكاء، يحفظ بعض شعارات الانتفاضة التي كانت ترددها الأناشيد الوطنية: "غزة انتفضت أول شرارة .. لبت بلاطة بهمة جبارة".

"ما زلت أذكر الزيارة الأخيرة لها، أحفظ ملامحها جيدًا، ابتسامتها تختلف وكأنها تزف إلى عرسٍ، لكن ملامح الحزن في عينيها، تحث الأسرى من أولاد المخيم: "شدوا حيلكم، هيجي يوم وتروحوا"، لم أكن أعرف أنها الفرحة الأخيرة وفرحة غياب (...) استشهدت برصاصة بالقلب مباشرة وتركت تنزف، واحتجز الاحتلال جثمانها ثلاثة أيام قبل أن يطلب من والدتي ووالدي فقط الحضور لدفنها الساعة الواحدة ليلًا لإخفاء جريمة سرقة أعضائها، لكن والداي لاحظا آثار خيوط طبية من أسفل بطنها حتى عنقها" هذه المشاهد والذكريات قالها لصحيفة "فلسطين" وكأنها مرت قبل عدة أيام، كانت دموعه قريبة من صوته تزوره بين الفينة والأخرى.

تمكن والدا نضال من زيارته في السجن، كانت الزيارة الوحيدة التي عانق فيها والدته، وبكى على كتفها، وألقى بعضًا من وجعه عليها، كانت الشخص الوحيد الذي شعر بألمه، كما شعر  بنبضات قلبها في لحظة عناق طويل، يومها قالت له أمه شيئًا أبكاه بمرارة: "طلبت سحر بعدما زرناك من والدها أن يشتري لها الكنافة، التي تحبها، ولكن بسبب زخم ذاك اليوم لم يستطع الذهاب إلى نابلس".

دموع لم تجف بعد

أطبق السجن على قلب نضال مثل قبر، "منذ ذلك التاريخ، لم نجتمع نحن الإخوة السبعة على مائدة واحدة، أسر أخي صلاح 18 عامًا وأفرج عنه في صفقة "وفاء الأحرار" عام 2011م، وشقيقي جمال سجن ست سنوات وبعد الإفراج عنه توفي، وأمضيت أربع سنوات في السجن وبعدها ست سنوات متفرقات، لتبلغ في مجموعها نحو تسع سنوات، أيضًا أسر الاحتلال والدتنا 40 يومًا بسجن الجلمة، وهدم الاحتلال بيتنا مرتين، وبقية إخوتي طاردهم" يعرض وصفًا عامًّا لمعاناتهم، لكن في تفاصيلها افتراق، وتشرد، وملاحقة، وكل أنواع العذاب ذاقته عائلة الجرمي.

عرفت شوارع مخيم بلاطة سحر الجرمي، فكانت من أبرز المشاركات في المراكز النسوية، ولها علاقات وطيدة مع سيدات أصبحن اليوم رموزًا وطنيةً، تشارك دومًا في رشق جنود الاحتلال بالحجارة؛ وكانت أولى شهداء الضفة الغربية في انتفاضة الحجارة، أشعلت شرارة الانتفاضة في جبل النار والمدن حولها، ولا يزال اسمها يتردد مطلقًا على أسماء الفعاليات والأنشطة والبطولات الرياضية إحياءً لذكراها، وتخليدًا لاسمها.

تهيأت عينا نضال لذرف دموعٍ لا تفارقه كلما غلبه الشوق، هنا أيضًا غلبته: "أقول لك بصدق .."، ثم حاول مسحها وتمالك نفسه: "كلما نلتقي نحن الإخوة نستذكر حالنا بعدما تزوجنا وأنجبنا، لو بقيت سحر حية لرأينا أولادها، كانت السند لأمي، فوالدتي وحيدة بلا أخ أو أخت (...) نفتقدها حتى اليوم، و33 عامًا لا تكفي لإغلاق الجرح ونسيان سحر، حتى إني أسميت ابنتي سحر على اسم عمتها، وهي تبلغ من العمر اليوم 28 عامًا".

الجانب المرير هنا أنه في ذكرى استشهادها تفتح والدتها "بيت أجر" وتضع صدر كنافة في أول الحارة وآخر في البيت، وتوزعها على النساء والرجال، وهذه المراسم تقوم بها منذ 33 عامًا، يعلق نضال: "تقول لنا أمي: سحر طلبت الكنافة وذهبت ونفسها بها، وأنا سأطعمها للناس لعله يصل إليها، تذهب إلى قبرها دائمًا، تحتفظ بجميع ملابسها، دائمًا -خاصة في يوم الذكرى- تخرجها وتستذكر سحر".

 

 

 

 

 

اخبار ذات صلة