قائمة الموقع

في ذكرى ميلاد "علي" انطفأ وهج الشمعة الـ(15)

2020-12-08T11:30:00+02:00
uz3QS.jpg
فلسطين أون لاين

"في حضرة الغياب؛ الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء (...) هذا هو العرس الذي لا ينتهي؛ في ساحة لا تنتهي، في ليلة لا تنتهي؛ هذا هو العرس الفلسطينيّ، لا يصل الحبيب إلى الحبيب إلا شهيدًا أو شريدًا" محمود درويش.

أطل مثل شمس مشرقة تشع الفرحة من وجهه وتلمع عيناه بريقًا وابتسامةً متوهجة، يُذكر علي أبو عليا (15 عامًا) والدته: "يما؛ ديري بالك اليوم عيد ميلادي 4 ديسمبر"، ارتسمت كومة مشاعر من فرح على وجه والدته، وهي ترى ابنها يكبر ويتفتح مثل زهرة ينمو حبها له في بستان قلبها، فيزهر حبًّا لا جذور فيه، قبل أن تجيبه: "والله عارفة يا علي، مش ناسية"، ابتسامته هنا أشبه بطائر يحلق في سماء الفرح، لتهبط على وجهه ضحكة تشابه جمال ملامحه وصفائه: "خلص حضري حالك"، يشرك والدته في سعادة تغمره على غير العادة: "يما خلصت 15 سنة، بدي أسوي هوية!"، رمقته بنظرة بداخلها كومة حنان: "إن شاء الله شو ما بدك بنسويلك".

رفعت المآذن صلاة الجمعة، توضأ علي، وغادر طيفه، ولم يعد للبيت مع انتهاء الصلاة، قلب والدته أشبه ببركان، أوشكت حمم خوفها أن تنفجر قلقًا على طفلها، لا تخفي على زوجها ما تشعر به: "روح جيب الأولاد، طولوا!"، لم تلتزم بما قاله لها زوجها من عبارات اطمئنان توقف هذا الاستشعار الداخلي: "عندهم روحوا، تخافيش"، ظلت تمشي جيئة وذهابًا، تنظر إلى باب البيت، منقادة طائعة لأحاسيس قلبها.

محاولة ثالثة .. وعلامات استفهام

أمسكت هاتفها اتصلت بابنها علي، لكن لم يرد، أعادت المحاولة ثانية، وثالثة، بلا فائدة، تزاحمت بداخلها أسئلة وعلامات استفهام، تحاول إقناع نفسها بأنه بخير، لكن مخاوفها كانت أكبر: "يا ترى شو صاير معه؟!"، وأمام تلك المتاهة والمعترك الداخلي، عاودت المحاولة وقبل هاتف علي المكالمة، لكن لم يكن صوته: "أهلين مرت عمي، علي بشحن جواله عنا راح مع إخوتي" – "وين راح يا ابني؟" – "في شباب بقولوا جنود الاحتلال في البلد (قرية المغير شمال شرق رام الله)؛ يمكن راح مع الشباب" – "طيب بتقدر تروح تجيبه، احكيله إمك خايفة عليك" - "حاضر ولا يهمك راح أحاول".

مرت لحظات أخرى، ترتجف كل أحاسيسها، وتغلي وتستعر، تكتوي بنار القلق وتحترق، مثل براد ماء على موقد نار، تكاد مشاعرها تتقاذف من قلبها وتتطاير منه، رن هاتفها، ارتجفت معه يداها، تهيأت لسماع صوته ليدوي في مسامعها ويدغدغ أحاسيسها ويبرد خوفها، لكن في فم المتصل شيءٌ آخر، يتحدث بصوتٍ مرتجف بصعوبة استطاع النطق: "علي متصاوب"، صرخت أمه وبكت وتاهت في مخاوفها: "وين متصاوب، وين؟!، احكي الله يرضى عليك، تقلقنيش"، "ببطنه"، خطف تلك الكلمة وأغلق سماعة الهاتف، وتركها غارقة في دموع صامتة، وزلزالٍ ضرب قلبها وأحدث شقوقًا لا نهاية لأعماق الحزن فيه.

وصل الخبر إلى والد علي أيضًا من طريق متصل آخر:

- عمي؛ ابنك علي انجرح.

- بشو انجرح؟!

- بفشك مطاطي.

- الله يستر.

"نقل علي مصابًا إلى مشفى القرية بسيارة، ثم نقل إلى رام الله، وأجريت له عمليات إسعافات، أطلق أحد جنود الاحتلال رصاصة كاتمة للصوت عليه، قالي لي أحد الشباب: (لم نسمع صوت رصاصة، فقط رأيناه يسقط أرضًا، كنا نحو 200 شاب من القرية، نحاول صد قوات الاحتلال وآلياتهم ببعض الحجارة)" عبر سماعة الهاتف يعيد والد علي نسج تفاصيل الوجع مرة أخرى وهو يرتب حدثًا أدمى قلبه، في حين كانت صحيفة "فلسطين" تنصت لتنقل المشهد من زاوية قريبة.

ساعتان ونصف مرت، وعلي لا يزال بغرفة العمليات، يحاول الأطباء إسعافه، هناك لا صوت يعلو على صوت هدير أنفاس والدته المتقاطعة، كان الحريق بداخلها مستعرًا، تخشى سقوط آخر ورقة من عمر طفلها، تلهج بالدعاء، ليت "دموعها التي تسكبها كغيمة حزن تحمل ترياق النجاة له"، الطبيب لا يخفي الوضع لوالده: "الرصاصة خطرة، وضعه خطر جدًّا"، كلمات الأب مرتجفة: "وهل هناك أمل؟"، سؤال مليء بكومة مشاعر، خوف، وقلق، وتوتر، وأمل، ربت الطبيب على كتفه، وتفهم هذا الاحتراق الأبوي الداخلي، ووالدته تنصت لحديثهما: "الأمل ضعيف جدًّا، سنجري عمليتين، لأن الرصاصة قطعت الشرايين بالبطن، وهناك نزف، وقد وضعنا نحو 35 وحدة دم حتى اللحظة".

انتظار.. وست ساعات قلق

صوت صليل الحزن لا يزال يدق نواقيس الوجع في قلب والدته، تنبش في تفاصيل المشهد بغرفة العمليات عبر سماعة الهاتف: "انتظرنا على باب غرفة العمليات، ندعو الله أن يشفيه، مرت ست ساعات صعبة علينا، كنت أحترق من الداخل، يتكنفني الحنين إلى معانقته، كنت مثل الذي يبكي دمًا".

"لحظات الله ما يعيشها لحد، ربنا صبرنا حتى خلصوا العملية"، فتح باب العمليات، ودفع الأطباء سرير علي إلى غرفة العناية، ألقت والدته نظرة عليه من بعيد، نظرة لم يرها، عانقته بدمعاتها، وهي التي كان حتى بالأمس لا ينام إلا بحضنها، ويطبع قبلة وداع مؤقتة قبل أن يستيقظ بقبلة صباح مشرقة كل يوم، فهل كانت قبلة أمس قبلة الوداع الأخيرة؟، مجرد تذكر الموقف جعلها تبكي مرة أخرى، لكن هذه المرة على الجانب الآخر من الهاتف، وكأن صوتها يخرج من قعر بئر: "أدخل غرفة العمليات، وطلب منا الأطباء المغادرة إلى "حين تحسن حالته"، حسبما ما قالوا، لكني رفضت وقلت للطبيب: "بقدرش أروح وأسيب علي هان"، بعد 10 دقائق طلب الأطباء الحديث مع والده منفردًا؛ استغربت، فأخبرني أحد الأقارب: "بعد خمس دقائق ستذهبين لرؤية طفلك"، لقد تهيأت لرؤيته وسماع نبضات قلبه".

أن تسمع من صوت والد شهيد لحظة إعلامه استشهاد طفله ورحيله يوجب عليك أن تضع قلبك جانبًا، وتسمع لصوت الوجع والقهر ومسافة طويلة من الحزن الذي لا وصف له، تهيأت عيناه للدموع مرة أخرى ومن الخلف أصوات معزين يحاولون تهوين الأمر: "ناداني الطبيب، ومهد الأمر مستعرضًا محاولات إسعاف طفلي، ثم نزع الغطاء الأبيض عن وجهه وربت على كتفي مرة أخرى: "علي شهيد عند ربنا"، فحمدت الله واسترجعته في مصيبتي".

 "ثم خرج والده ولم أره حزينًا قبل، لقد أخبرتني عيونه أن طفلي شهيد قبل أن ينطق بها: "ابنك شهيد"، حينما أشارت عقارب الساعة إلى الخامسة مساءً" كان أصعب شيء سمعته والدته، وهكذا رجعا، تتساقط دموعهما مثل أوراق الخريف، فقد أسُقطت آخر ورقة من عمر علي، وانطفأ وهج شمعة ميلاده قبل أن توقد.

"كل سنة كان يحتفل بذكرى ميلاده، نعد له قالب "كيك" (جاتوه) ويأتيه أصدقاؤه ويشاركونه في احتفاله"، لكن في هذا اليوم جاء أصدقاؤه وأهالي قرية المغير شمال شرق رام الله بالآلاف يشيعون روحه، فما أصعب أن يسدل الحزن ستاره على مراسم الفرح، ترثي طفلها: "كان محافظًا على صلاته، لا يفوتها مطلقًا".

في روتينه اليومي "كل يوم يأتيه أبناء الجيران وأصدقاؤه وأبناء عمه ينادون عليه، يذهبون معًا إلى المدرسة، ويعودون معًا، ثم يصلي ويتناول الغداء ويرتاح ثم يخرجون ويتنزهون، وفي المساء يتجمع مع أصدقائه أمام المنزل يوقدون النار، ويعدون الشاي، وأحيانًا يلعبون ألعاب الهاتف المحمول، ويتسامرون".

"حسبي الله عليهم، حرموه فرحته بذكرى ميلاده"، تأخذها الذكريات إلى لحظات علي "الحلوة" معها: "لا ينام علي إلا قبل أن يقبلني، هذه عادة يفعلها كل يوم، يقرصني ويمازحني مثل طفل قائلًا: "والله لأبسطك وأضلني معك"، في كل مرة كنت أخبره أني خائفة عليه من غدر جيش الاحتلال؛ وحدث ما كنت أخشاه!".

"علي –وليس لأنه ابني– من أفضل أبنائي الخمسة، كان مولعًا بالرياضة وكرة القدم، التحق بشقيقه وسام الذي توفي بمرض السرطان قبل 10 سنوات، كلما رآني أحمل شيئًا أخذه عني، في آخر لحظة له كان بجواري، لكن تفاجأت أنه خرج لأول مرة على غير عادته دونما يشعرني عندما سمع صوت رصاص، إذ التفت حولي فلم أجده" تغلب الدموع صوت والده هنا ويصمت في حضرة القهر والوجع والرحيل.

اخبار ذات صلة