قائمة الموقع

من "الإسطنبولية" "علي كريرة" يجني "السعادة" لأولاده

2020-12-06T09:02:00+02:00

يجول بتلك الشعيرات الشقراء وهي تجلس على أرضية بيضاء من الجبنة لتزينها، غارسًا قدميه برمال الشاطئ؛ يحمل بيديه ظرفًا يحوي أطباق حلوى مغلفة، يسير بها بين المصطافين على شاطئ بحر غزة يطارد الرزق في مهمة يومية لبيع سبعة كيلوجرامات من حلوى (الكنافة الإسطنبولية)، التي تعدها يدا "علي كريرة" منذ 13 عامًا.

لكن هناك همٌّ آخر يحمله، ففي منزله الواقع بمنطقة "تل الهوا" غرب مدينة غزة ينتظره أبناؤه الستة، ولأجلهم يتحامل على آلام العظام التي تنخر قدميه، يحبس ألمه بداخله، ويقفل عليه باب المعاناة، فلا يرى منه الناس إلا ابتسامة تشابه شمسًا مشرقة، ووجهًا طلقًا، وعبارات "طيبة" يحاول بها إقناع الناس بتذوق الحلوى.

في الأعلى كانت رياح منخفض جوي تسابق غيومًا ملبدة تغطي الأفق من بعيد يشابه لونها الرمادي الداكن تقترب ببطء، في حين أمواج البحر تبدو هائجة، عشرات المصطافين يتجمعون على الشاطئ.

تقدمت خطواته وألقى التحية على عائلة من عدة إخوة تجمعوا على طاولتين على شاطئ البحر، الظروف الصعبة جعلتهم يفاضلون أشياء أخرى عن الحلوى، وقبل أن يدير الرجل الذي يكنى بـ"أبي حسن"، أوقفه صوت قادم من الخلف: "يا عم وقف شوي أشوف شغلك!"، كتم ابتسامته واستدار له.

تحدٍّ في الإقناع

طلب تذوق قطعة قبل إصدار الحكم بالشراء من عدمه، فوافق الرجل الواثق بما صنعت يداه على التحدي، قضم الرجل قطعة وابتلعها وابتلع ما علق منها على إصبعه كذلك، وهز برأسه وهو يمط شفتيه للجانبين، وقد رسمت معها ابتسامته وإشارة إعجاب بيده، ووضع يده في جيبه وخرجت بما يسر أبو حسن.

ابتعدت خطوات "أبو حسن" التي تنغرس بثقل مع رمال الشاطئ، يتلقفه الهواء البارد من كل جانب، في الأفق يتوارى القرص الأحمر وراء الأفق، حينها بدأت السماء تتوشح باللون الوردي، وكلمات الحمد ترتد من "أبو حسن" راضيًا بما يبيعه، ليبدأ رحلة أخرى بتسويق الحلوى لشبان يمتطون خيولهم، ثم رجل وزوجته يلعبون مع أطفالهم، وبعض المصطافين، يكرر نفس المحاولة في الإقناع.

تلمح في عينيه نظرات مترعة بالحزن، وفي ملامح وجهه البساطة، يأخذك في حديثه لرحلته مع الحلوى وقد حبس دمعة أوشك على الهرب من حواف عينيه فلم يجرِ معه صحفي مقابلة قط: "منذ 13 عامًا، أعمل في صنع الحلوى، وكانت الطريقة ناجحة ما دام الضمير يتقي الله".

أخرج طبق حلوى من الظرف وأشار للقطعة التي تغطيها شعيرات شقراء، تجلس على قاعدة بيضاء من الجبنة الطازجة، مفصحًا عن "سر المهنة": "أحضر الرشة قبل يوم وأفردها على طبق كبير، وفي اليوم الثاني أجهز خليطًا يتضمن مواد غنية بالبروتين والفيتامين، بها حليب وسميد وسمنة حلوب وفانيلا سائلة".

تباغته ابتسامة عبرت على حديثه: "بطلع الطعم رائع كتير وهيك بتصير كنافة إسطنبولية".

"صراع يومي"

من صاحب معرض ومصنع يشغل عمالًا قبل ثلاثة أعوام ويبيع يوميًّا 70 كغم؛ أصبح الآن وحيدًا يصارع لأجل تصريف طبق الحلوى الكبير بما تحمله من وزن لا يزيد على 7 كغم، "مش قايل لأ لعل الله يفرجها، خسرت المعرض بسبب قلة البيع وبطلت أقدر أجيب إيجار المحل بسبب الظروف" أغلق أبو حسن المحل، وبات هذا الطبق مصدر دخل الأسرة.

يضرب يدًا بيدًا، وفي صوته الرضا وعلى ملامحه الابتسامة: "الحمد لله تأثرت بجائحة كورونا، ولا أستطيع إعداد طبق ثانٍ، فالوضع الاقتصادي صعب والناس يفاضلون الاحتياجات الأساسية على الحلوى".

نخرته وخزة ألم واضعًا يده على مفصله، وأخرج تنهيدة طويلة، تغير معه مجرى حديثه "أسير مسافة طويلة مشيًا على الأقدام من غرب "تل الهوا" حتى البحر، ثم الميناء والجندي المجهول، أحدث ذلك وجعًا بالعظام.. ذهبت للأطباء وأخبروني أن هذا مسامير بالعظام بسبب المسافات الطويلة".

عذاب ملون

شد على وجهه وهو يتحامل على نفسه، مستذكرًا آلامًا ترافقه حتى بمسيره، ينقل المشهد بعفوية: "لما أصل البيت أولادي بسمعوا صراخي من وجع كعاب رجلي بسبب مسامير العظم، ولما أصحى من النوم بشوف العذاب ألوان".

يسير بعض الخطوات للأمام؛ يحاول تجاهل نخزات الألم التي تزور قدمه بين الفينة والأخرى، يدخل في قلب معاناته أكثر، تخبرك عيونه عن وجعه قبل صوته الساكن وراء المعاناة: "لدي بنتان بالجامعة، وأربعة أولاد بالمدرسة، هناك قلة بيع (...) الحياة المرفهة انتهت، كثيرًا ما يذهبون بلا مصروف وإن أعطيتهم مصروفًا يفرحون به".

يجني أبو حسن نحو 100 شيقل إن باع طبق الحلوى كاملًا، لكن نصف الثمن يذهب لشراء مواد خام طبق اليوم التالي، "إذا اشتغلت وبعتها هيني جبت الطبخة للأولاد، إذا ما بعتش ربنا هو اللي برزق".

يسير بخطوات بطيئة لكن هنا رسم على وجهه ضحكة عريضة منتشية بالفخر: "الحمد لله الصينية اللي بعملها قليل برجع صحن ولا اثنين".

"الواقع مرير"، قالها وعينه على الفضاء الواسع أمامه من بحر ورمال وسماء وقلة ناس بسبب برودة الطقس، "كان في السابق الزبون يأخذ ثلاثة كيلوجرامات اليوم الوضع لا يسمح فهو يفضل شراء الطماطم على الحلوى".

يمضي أبو حسن جل وقته في إعداد طبق الحلوى، فمن تجهيزات الليل وبسط الكنافة على أرضيته الفضية، إلى تجهيزها ظهر اليوم التالي، ثم ينطلق يحاول تصريفها حتى حلول المساء، ويبدأ دورة التعب مرة أخرى، يتحمل جهدًا كبيرًا حتى لا يمد يديه للناس، حتى لا تبقى أمعاء أولاده خاوية.

اخبار ذات صلة