لا يفارق القلق الزعماء المستبدين العرب في التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتستبد حالة القلق بهم مع كل دورة انتخابية وقدوم رئيس جديد، فهؤلاء الزعماء الفاقدون للشرعية والرشد يدركون جيداً أن عليهم تعديل سلوكهم ليتماشى مع سياسات الرئيس الجديد.
وقد بلغ قلق الدكتاتوريين العرب مداه مع انتخاب جوزيف بايدن رئيساً للولايات المتحدة، الذي شدد على أن المبادئ التي ستحكم سياسته في الشرق الأوسط تستند إلى الالتزام بالديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان ومكافحة الفساد، وهي مفاهيم لا تتمتع الأنظمة العربية الدكتاتورية بالحد الأدنى من متطلباتها.
ورغم معرفة المستبدين العرب بأن السياسة الأمريكية في المنطقة قامت على دعم الأنظمة الاستبدادية، إلا أنها تخشى أن تتحول الرطانات البلاغية إلى سياسة فعلية، أو تستخدم تلك القيم كشعارات للضغط والابتزاز. فإذا كان ترامب استخدم القوة كوسيلة ابتزاز، فلا جدال في أن بايدن سيستخدم الدبلوماسية كأداة ابتزاز.
إن قلق المستبدين العرب الذين منحهم الرئيس الخاسر في الانتخابات دونالد ترامب مساحة واسعة من الاستبداد والقمع، سيصبح قلقاً مضاعفاً مع رئيس يعرفون أجندته مسبقاً باعتباره استئنافاً لرؤية الرئيس السابق أوباما في إطار مقتضيات البراغماتية الواقعية.
وكان بايدن قد طرح الإطار العام لسياسته الخارجية في ورقة نشرها في مجلة "فورين أفيرز" في نيسان/ أبريل الماضي، بعنوان: "لماذا يجب أن تقود أمريكا مرة أخرى: إنقاذ السياسة الخارجية للولايات المتحدة بعد ترامب"، حيث أكد بايدن على أنه سيسعى إلى إعلاء قيم الديمقراطية والليبرالية كمحور للعلاقات مع الدول الأخرى، حيث كتب قائلا: "كرئيس سأقوم بخطوات فورية لتجديد الديمقراطية الأمريكية وحلفائها، فقد أدى انتصار الديمقراطية والليبرالية على الفاشية والاستبداد إلى خلق عالم حر"، وتلك كلمات ترعب المستبدين العرب.
وعلى الرغم من الحديث عن إعلاء قيم الديمقراطية والليبرالية كمحور للعلاقات مع الدول الأخرى، إلا أن تلك القيم لا تشكل أولوية في التعامل مع المنطقة العربية. فالسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط كانت ملتزمة تاريخياً بدعم الأنظمة الاستبدادية في إطار عقيدة الاستقرار.
ولا يخرج بايدن عن الأطر السياسة الأمريكية التقليدية في الشرق الأوسط، وقد حددها بمكافحة الإرهاب، وضمان أمن إسرائيل، والملف الإيراني، والعلاقة مع السعودية. ومع ذلك فإن منطقة الشرق الأوسط لن تتمتع بأهمية كبرى في أولويات بايدن، فالانسحاب الأمريكي التدريجي من المنطقة سوف يستمر، وهو نهج يستند إلى مبدأ إعادة التوازن الذي بدأ خلال عهد أوباما للتفرغ لأولويات أخرى وفي مقدمتها مواجهة الصعود الصيني. واستمر نهج أوباما في حقبة ترامب، وسوف يبقى خلال ولاية بايدن، وهو نهج يقوم على الحدّ (إلى أقصى درجة ممكنة) من التدخلات العسكرية الأمريكية في المنطقة.
إن حالة القلق لدى المستبدين العرب من سياسات بايدن في الشرق الوسط، تنبع من الخشية من أن تتحول الشعارات التي طرحها بايدن حول معيار تطبيق الديمقراطية كأساس حاكم في علاقات أمريكا مع الدول، إلى حقيقة واقعة، وأداة ضغط فعالة. فقد كان بايدن واضحاً في ذلك حين قال: "من هونغ كونغ إلى السودان، ومن تشيلي إلى لبنان، يذكّرنا المواطنون، مرّة أخرى، بالتوق المشترك إلى الحكم الرشيد، والبغض العالمي للفساد" الذي وصفه بأنه "وباء خبيث، يؤجّج القمع، ويقوّض كرامة الإنسان، ويزود القادة الاستبداديين بأداة قوية لتقسيم الديمقراطيات وإضعافها في جميع أنحاء العالم. ويبدو أن ترامب ينتمي إلى الفريق الآخر، ويأخذ كلام المستبدّين بينما يظهر ازدراء الديمقراطيين، من خلال ترؤسه أكثر الإدارات فسادا في التاريخ الأمريكي الحديث، فقد منح الرخصة للفاسدين في كل مكان".
بعيداً عن الشعارات الكبرى المتعلقة بالديمقراطية والليبرالية، فإن رؤية بايدن ملتزمة بأمن إسرائيل وتفوقه، وقد تعهد بعدم إعادة السفارة الأمريكية إلى تل أبيب، وبعدم إلغاء اعتراف الولايات المتحدة بضم إسرائيل غير القانوني لمدينة القدس ومرتفعات الجولان. ويعتبر بايدن من أكثر الساسة الأمريكان تشدداً في الدفاع عما يعتقده أمن إسرائيل، فقد شدد على ذلك بوضوح في مقاله حين قال: "يجب التشديد على حماية أمن إسرائيل"، وربما يكون الاختلاف الوحيد بين بايدن وترامب هو أن بايدن قد يستأنف المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية، بعد أن يخصم المبلغ الذي تدفعه السلطة الفلسطينية لدعم عائلات الشهداء وأسرى الحرب الفلسطينيين.
تشكل الحرب على الإرهاب قمة أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، وهي سياسة ثابتة منذ نهاية الحرب الباردة عموماً، وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر حصوصاً. فقد شدد بايدن على الاستمرار بمحاربة القاعدة وداعش شأن أسلافه، لكن مقاربة بايدن العسكرية التي يصفها بالذكية تستند إلى التقليل من استخدام القوة والاعتماد على الدبلوماسية والحلفاء، فهو يقول: "تجب إعادة معظم قواتنا من أفغانستان والشرق الأوسط، وإعادة تعريف مهمتنا هناك وبشكل أضيق لتكون دحر القاعدة وداعش.. إن بإمكاننا أن نكون أقوياء وأذكياء في ذات الوقت. هناك فرق كبير بين إرسال وحشد قوات عسكرية كبيرة ولمدى مفتوح، وبين استخدام بضع مئات من القوات الخاصة والاستخبارات لدعم شركائنا المحليين ضد عدونا المشترك". ولا تبدو سياسة بايدن في هذا السياق مختلفة عن سلفه ترامب.
أحد أهم القضايا التي تقلق المستبدين العرب من سياسة بايدن في الشرق الأوسط، تتمثل بنهاية سردية تعريف المخاطر في المنطقة التي نسجته الأنظمة الاستبدادية مع المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية برعاية ترامبية، وتشكل على أساسها حلف التطبيع العربي الإسرائيلي، عبر مداخل حرب الإرهاب، ومقاربة العدو باختزال المخاطر بالمنظمات الإسلامية السياسية والجهادية، وفي إيران الشيعية وتركيا السنية، وتحول المستعمرة الاستيطانية إلى صديق وشريك. فحسب المنظورات الإمبريالية الأمريكية والصهيونية الإسرائيلية، فإن البنية التحتية لمشروع "صفقة القرن" باتت مهيأة لإعادة بناء الشرق الأوسط عبر تصفية القضية الفلسطينية، وإدماج المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية في نسيج الدكتاتوريات العربية.
في هذا السياق لن تكون مهمة الأنظمة العربية الدكتاتورية ميسرة بتجاوز قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان داخلياً، بذريعة الإرهاب الإسلامي، وخارجياً فإن الملف الإيراني سيصعب التعامل معه عبر مداخل الإرهاب، إذ يبدو بايدن عازماً على إعادة الحياة للاتفاق النووي لوقف سعي إيران لامتلاك سلاح نووي وهو ما يعتقده أولوية قصوى لإدارته، حيث قال: "وكرئيس للولايات المتحدة، سأجدد التزامنا بالحد من التسلح في عهد جديد، حيث كان الاتفاق النووي الإيراني التاريخي الذي تفاوضت عليه إدارة أوباما- بايدن قد منع إيران من الحصول على سلاح نووي. ومع ذلك، وبتهور شديد انسحب ترامب من الاتفاق، مما دفع إيران إلى إعادة تشغيل برنامجها النووي وأصبحت أكثر استفزازاً، مما زاد من خطر اندلاع حرب كارثية أخرى في المنطقة.. يجب أن تعود طهران إلى الامتثال الصارم للاتفاق". ورغم العقبات التي ستواجه استئناف المفاوضات، إلا أن رؤية ترامب أصبحت من الماضي.
على الجانب الآخر، فإن الملف السعودي الذي يوليه بايدن أهمية في سياسته الشرق أوسطية، سوف يشهد تحولاً، فبايدن لديه مواقف سلبية مسبقة من السعودية تتمحور حول ملفي حقوق الإنسان والحرب في اليمن، ولذلك بدا واضجاً أن السعودية بدأت تتكيف مع الواقع الجديد بتحسين علاقاتها مع تركيا، والتريث في رؤية صفقة القرن بصيغتها الترامبية، ولكن مع التمسك بتعريفها للإخوان المسلمين منظمة إرهابية، والإصرار على مقولة الإرهاب الإيراني.
خلاصة القول إن العالم العربي لا يشكل تحدياً للسياسة الخارجية الأمريكية، فالزعماء المستبدون العرب اعتادوا القلق من السياسات الأمريكية مع كل انتخابات، فهم يخشون من أي تغيير مهما بدا سطحياً، لكنهم سرعان ما يتكيّفون مع متطلبات سيدهم الجديد في البيت الأبيض، بعد تململ وحرد وعتاب، تعبيراً عن قلقهم تجاه تغيير تأنفه طبيعتهم الاستبدادية المحافظة فقد تناغمت هذه الأنظمة الدكتاتورية مع ولاية ترامب الشعبوية الاستثنائية التي فضلت الدكتاتورية على الديمقراطية صراحة، واستخدمت القوة كأداة سياسية، ومارست الابتزاز والإذلال، والأدهى أنها كانت سعيدة بالترامبية وعاشقة لترامب. ورغم أن بايدن يعود إلى نهج الواقعية والبراغماتية الأمريكية المعهودة، إلا أن المستبدين العرب الذين استبد بهم حب ترامب، يخافون من إي إشارة إلى قيم الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان، رغم إدراكهم أنه لا وجود لتغييرات كبرى في الملفات الأساسية الثلاث في الشرق الأوسط التي تتعلق بمكافحة الإرهاب، وأمن إسرائيل والملف الإيراني.