قائمة الموقع

"جمانة" تُعوِّضُ "عدلي" ما فقده وتؤجِّل حلم عمرها

2020-11-28T10:43:00+02:00
جمانة وعدلي عبيد من سكان الشجاعية.jpg
فلسطين أون لاين

صوت عراك يديها مع الملاعق والأواني يتسابق لتجهيز عجينة قالب الجاتوه بشكل حبة "الأناناس"، وصوت الماكينة الكهربائية وهي تدور لتجهيز العجينة تعزف ألحان الأمل على ملامح زوجها عدلي عبيد، وقد رسمت ابتسامة على وجهه أزاحت فيها ستار حزن ويأس جثم عليه مدة طويلة، فقد "صال وجال" بحثا عن فرصة عمل، "بلا جدوى"، وكان يُنظر إلى قدمه المبتورة و"أنه إنسان ليست لديه القدرة على العمل".

من هنا كانت زوجته جمانة التي تصنع قوالب جاتوه السند الذي فقده عدلي، مدت إليه طوق النجاة لتخرجه من مستنقع "الأزمات" قبل أن يغرق في وحل "البطالة"، يتشبثان بالأمل والحياة ويحلمان بغدٍ أفضل، وجدت في مشروعها تعويضًا عن حلم آخر أفقدتها إياه الظروف، فمكان هذه الشابة - خريجة التعليم الأساسي- الوقوف بين الطلبة.

في ركن بداخل مطبخ المنزل بحي الشجاعية بمدينة غزة، تطير صاحبة المشروع جمانة عبيد  بحديثها لبداية المشروع وحولها يتأهب الفرن بانتظار وضع قالب الجاتوه، فاردة أدوات الزينة على الطاولة "بدأنا العمل قبل أربعة أشهر، كوني خريجة تعليم أساسي ولم أجد فرصة عمل، ففكرت بمساعدة زوجي بعمل مشروع مشترك يدر دخلا لنا، ويعيننا على مصاعب الحياة التي تثقل كاهلنا، من حصار، وضيق، وبطالة، وأزمة كورونا".

إصابة غيَّرت حياته

بجوارها، يضع زوجها الجريح ما تبقى من قدمه اليسرى على هامة عكازه، لتسنده مندمجا مع هذه الوضعية يتحرك بها وكأنه غير مبتور القدم، يجهز الكريمة ويحرك خليطا من المكونات التي سكبتها زوجته في علبة بلاستيكية صغيرة، تمر أحداث إصابته على حديثه "الثالث والعشرون من نوفمبر/ تشرين الثاني 2011م؛ كنت جالسًا مع بعض أصدقائي وأبناء الجيران، فقصفت طائرات الاحتلال ورشة بجوارنا".

صدى ذلك الصاروخ يئن في ذاكرته، تغير معه مجرى حديثه قليلا "اعتقد الجميع أنني استشهدت، ووضعت بثلاجة الموتى مع أصدقائي الشهداء، ونعيت شهيدًا، لكن أبي عندما جاء لوداعي، شعر بنفس أو بشيء، فصرخ "ابني عايش .. ابني عايش"، ونقلت للعناية المكثفة، إلا أن قلبي توقف في العناية المكثفة وأجرى لي الأطباء عملية إنعاش لقلبي لأعيش وأتزوج وأرزق بثلاثة أطفال، وقبل الإصابة كنت أعمل بمحل ملابس".

سافر عدلي للعلاج من الإصابة، وبعدما تزوج سعى جاهدًا لإيجاد فرصة عمل، لكن "دون جدوى"، يعود مجرى حديثه عن المشروع، بضحكة مثل رعشة برق خاطفة برزت منه حبست دمعة حاولت التسلل من حواف عينيه من الموقف السابق "فكرت زوجتي بالمشروع، وأيدتها في ذلك، فانخرطت في دورات، وبدأ الناس يعجبون بمذاق طعامها".

ملامحه لم تغيب وهج ابتسامته طيلة حديثه مع صحيفة "فلسطين"، بجواره كانت زوجته تنظف الصحون "نجهز يوميا ثلاث طلبيات أو خمسا، صار في دخل في ظل الحصار وكورونا مع أخذ اجراءات الوقاية".

توقفت جمانة عن التنظيف، دخلت في أجواء الحديث "اقترحت المشروع عليه لما وجدته بذل جهدا كبيرا للبحث عن عمل بلا فائدة، وهنا يتجلى دور الزوجة التي تشعر بمعاناة زوجها (...) بدأنا المشروع المشترك بيننا".

عدلي الذي يسند قدمه على عكازه، ناب عنها في الكلام هنا "لما وجدت المشروع مجديا ويوفر دخلا، حتم علي الأمر مساعدة زوجتي، حتى لا تبقى تعمل وحدها (...) أحيانا أبقى مع الأولاد، أجهز الكريمة، أو أنظف الصحون، وأجلب الأغراض المطلوبة من الخارج وكذلك الرد على الطلبات عبر التواصل الاجتماعي".

تذهب نظراته إلى الأسفل تجاه قدمه وصوته كذلك يملؤه الثقة والكثير من الرضا "صح عندي بتر لكن الإعاقة ما كسرتنيش، وإن شاء الله ينجح المشروع ويكون خيرا لنا".

يتمنى الزوجان أن يكبر مشروعهما، ويستطيعان توفير ماكينة عجن كبيرة، وفرن وأنبوبة غاز أكبر حجما من الموجودة، حتى يلبوا طلبات الزبائن المتزايدة، فأحيانا يضطرون لتأخيرها بسبب صغر حجم الفرن، أو المكوث في المطبخ وقتا أطول لتجهيز قالب جاتوه تلو الآخر، بما يناسب مساحة الفرن.

ضحكة عفوية عابرة، تسلك طريقها في وجه عدلي "المشروع أراحني كثيرا  الآن أشعر بسعادة كبيرة، أعتبر نفسي إنسانا طبيعيا لم أفقد قدمي".

انتهت جمانة من سكب خليط الكريمة مرة أخرى في الماكينة، وبدأت بتحريكها بيدها، بعد أن ألقت نظرة على قالب الجاتوه في الفرن، تقول "الناس لا تبحث عن الشيء التقليدي، بل عن القوالب المميزة، مثلا أشكال الرسوم المتحركة".

شراكة زوجية

مضت الماكينة في دورتها مرة أخرى لتجهيز الكريمة بشكل نهائي تقف جمانة على رأسها، أما عدلي فيمسك سكينا يقطع بها حبات الأناناس، شراكة في الحياة الزوجية والعمل، مشروع لم يحلم به الاثنان من قبل، حتى تحقق على أرض الواقع.

سكت صوت محرك الماكينة الذي يشبه صوت "الخلاط الكهربائي"، لكن صوت عدلي كان به يشيء عالق " أفتخر أني أساعد زوجتي، وأننا متوافقان في الحياة ودائما سعيدان وشريكان حتى في العمل".

أخرجت زوجته، قالب الجاتوه من الفرن، ومررت السكين عليه لتقطعها خمس قطع، وضعت القطعة الأولى وسكبت عليها الكريمة ثم صفت حبات الأناناس ورشت بعض السوائل المرطبة لها، ثم وضعت الطبقة الثانية ونفس المكونات، وكذلك الطبقة الثالثة والرابعة والخامسة.

ورغم تلك السعادة التي بدت واضحة خلال وجودنا في مطبخ منزله ومعايشة أجواء إعداد قالب الجاتوه من الألف للياء، جمانة كان يفترض أن تقف بمشهد غير الذي تقفه الآن "كوني خريجة تعليم أساسي تخرجت عام 2015م، بحثت عن عمل مناسب لكن لم أجد، مفترض أن أقف بصف أدرس الأطفال".

تفرد كفي يديها على كلا الجانبين ارتفع حاجبها للأعلى معبرة عن أسفها "آخر المطاف وجدت نفسي في البيت" ثم ضحكت بعفوية على واقع الحال "لو أخدت فنون الطهي من بداية الطريق كان نجحت".

ومع ذلك لم تندم، وهي تشعر بالشغف بهذا العمل الذي تعلقت به منذ سنوات، وكانت دائمة الاطلاع على ما لذ وطاب من الوصفات.

الشغف هذا نال منه عدلي أيضا الذي اندمج بالمجتمع أكثر، فانخرط في أندية كرة القدم والسلة مع ذوي الإعاقة، ويدير المشروع كذلك.

تضع جمانة اللمسات الأخيرة على القالب، غطته من الأعلى والجوانب بالكريمة الصفراء، ثم أمسكت قمعا مخروطيا من النايلون وسكبت به كمية كبيرة من الكريمة، وبدأت بسكبها بدقة وحذر واحدة تلو الأخرى بشكل دائري على القالب، استغرق ذلك عشر دقائق، خلالها تذكرت معاناتها في العمل "معاناتي كأم كبيرة فالقالب الواحد كما رأيت يأخذ وقتا، أحيانا أخلد إلى النوم عند الثانية فجرًا، وأحيانا أخرى أنتظر وصل التيار الكهربائي وأبدأ العمل الساعة العاشرة مساءً"، معها انتهت من ملء جوانب القالب ووضع شكل ورقة خضراء في الأعلى وعيون وفم، وأصبح قالب الأناناس جاهزًا.

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

اخبار ذات صلة