عندما أعلنت السلطة الفلسطينية قرار وقف كل أشكال العلاقة والتنسيق مع الاحتلال في أيار/مايو الماضي رافقت القرار أجواء احتفالية على نطاق السلطة وحركة فتح، بمعنى أن خلاصة الأمر كانت تشي بأن السلطة روجت لحالة جديدة تقول إنها تراجعت عن مسار كامل، وتابت عن خطيئة كبيرة اسمها التنسيق الأمني، هذا المصطلح كان يستفز أركان السلطة إذا ما اتهمت به، رغم إقرارها بأنها تمارسه، (وهذه واحدة من عجائب السلطة التي لا تنتهي)، ورغم أن محمود عباس صدح ذات يوم بمفردة الصراحة الأصدق حين نعت التنسيق الأمني بالمقدس، وهو ما كان وما زال!
التحلل من الاتفاقات الموقعة مع الاحتلال صدر مشفوعًا بقرارات المجلسين الوطني والمركزي، ومرّ بعدة محطات إعلان قبل أن يخرج بصورته النهائية، التي جاءت عقب إعلان حكومة الاحتلال نيتها ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية، لكن استئناف العلاقة كان يكفيه تغريدة للوزير حسين الشيخ، متأثرًا بتفسير رغائبي خاطئ لرسالة (لا تعني شيئًا ولا تقدم جديدا) من المنسق لأعمال الحكومة الإسرائيلية في الضفة (كميل أبو ركن)، فيما يبدو أن السلطة أرادت لحسين الشيخ أن يكون واجهة لتفريغ انفعالات الرفض والغضب الآني من خطيئتها الجديدة، قبل أن يعتاد الجمهور عليها.
لعله بات واضحًا مدى تأثير نتائج الانتخابات الأمريكية في تحول السلطة الأخير ورجوعها السريع عن المسار الذي سلكته (اضطرارا)، ثم الضائقة المالية التي ألمّت بها، عقب امتناعها عن استلام أموال المقاصة، وقصورها عن مجابهة استحقاق رفع سقوف التحدي في سياساتها، خصوصًا أنها لم تهيئ جمهورها وعموم الشعب للحظة مجابهة قد تفرز العوز والجوع، في سياق التصدي للسياسات الصهيونية، المباركة أمريكيًا، في الضفة. يضاف إلى ذلك إدراكها أن قطاعًا واسعًا من الشعب لا يثق بها، ولا يرى جدوى من النضال والصمود تحت راياتها المتلونة، وشعاراتها المخاتلة.
واليوم، وبعد إعادة السلطة علاقاتها المختلفة مع الاحتلال، ثمنًا لوجودها وبقائها، لا تريد القول صراحة إنها تراجعت عن ذلك المسار الاضطراري الذي سلكته مؤخرا، أي مسار التوافق مع الفصائل الفلسطينية وإنهاء الانقسام، وكل متعلقاته، بعد كفها المؤقت عن البحث عن السراب في فيافي الإدارة الأمريكية، بل تحاول من جديد رمي الكرة في ملعب غيرها، ويطالب قادتها حماس وبقية الفصائل بأن تغلّب المصلحة الوطنية على المصالح الأخرى، والمصلحة الوطنية هنا تعني بالضرورة ما تراه فتح وما تقرره قيادتها، والتجند في معاركها الوهمية، والتصفيق لانتصاراتها المترعة بالزيف.
ما أبداه هذا الموقف، وما ستبديه المواقف والسياسات اللاحقة للسلطة هو عدم احترامها لنفسها أولا، وهي تمتهنها لدرجة جعل المنسق الإسرائيلي في الضفة الغربية مرجعية لها، وعدم احترامها للشعب وللفصائل التي يفترض أنها شريك في صياغة السياسات الوطنية، فمن تابع مجريات مؤتمر الأمناء العامين للفصائل في بيروت ورام الله مطلع أيلول الماضي استبشر بعض الخير، وتوقع الخلوص إلى ميثاق وطني عام تتقاطع عليه جميع المكونات بعد أن تساهم في إرسائه، إنما واضح أن نزعة التفرُّد والاستبداد في القرار والنزوع الدائم للمقامرة بمستقبل القضية كلها هي سمات أصيلة لدى هذه القيادة المتنفذة، وأن علينا في كل مرة تُبدي فيها سلوكًا مغايرًا أن نعدَّه استثناءً ونبحث عما وراءه، وأن يتم التعامل معه بكثير من الحذر وقليل من الترحيب.
إخراج موقف تراجع السلطة بهذه الآلية كان ضروريًّا لتذكيرنا بحقيقتها وماهية دورها، فهي ليست سلطة تحرير ولا سلطة بناء دولة ولا حتى سلطة تنمية ومؤسسات، هي سلطة إدارة حكم ذاتي، محدود الصلاحيات، وفق ما يتيحه ويبقيه لها (المنسق) من شؤون ومجالات نشاط، أما صلاحياتها المفتوحة فلا تكون إلا في إظهار مهارات التنسيق الأمني وملاحقة المقاومين، وهي مهارة ليس فقط لأنها تحقق إيجابيات للأمن الإسرائيلي، بل لأن السلطة ما تزال قادرة على ممارستها وهي تقول: "نحن من نعلّم الناس الوطنية والنضال"!