في مثل هذه الأيام من نوفمبر/ تشرين الثاني سنويا، تزخر مواقع التواصل الاجتماعي بصور ومنشورات داعمة وتضامنية مع نائل البرغوثي، الذي يقضي حكمًا في سجون الاحتلال منذ سنوات طويلة؛ جعلته أقدم أسير سياسي في العالم.
لكن المفارقة هنا أن هذا الرجل الذي تنحدر أصوله من قرية كوبر بمدينة رام الله، لا يعرف شيئًا عن هذه المواقع أو آلية استخدامها. ويوافق 20 نوفمبر، اليوم الذي يبدأ فيه البرغوثي سنة جديدة من عمره في سجون الاحتلال، إذ بدأ قبل أيام السنة 41 من عمره أسيرًا.
مرَّ على أسر البرغوثي أربعة عقود اختلف فيها شكل الحياة التي عرفها، واجتاحها الواقع الافتراضي بقوة وهو مغيب ومحروم من أبسط حقوقه بحياة حرة بين عائلته التي لم يقضِ معها من سنوات عمره بقدر ما قضاه خلف القضبان.
والبرغوثي ولد في قرية كوبر في 23 أكتوبر/ تشرين أول 1957، وأسره الاحتلال للمرة الأولى في 1978، عندما كان يبلغ من العمر (19 عامًا)، وحكم عليه بالسجن المؤبد و18 سنة، بواقع 117 سنة مجتمعة.
وبعد اعتقاله الأول أمضى 34 سنة متصلة، وتحرر في صفقة "وفاء الأحرار" نهاية 2011.
لكن لم يمضِ على تحرره كثيرًا قبل إعادة اعتقاله مجددًا والزج به في سجون الاحتلال سنة 2014، إلى جانب العشرات من محرري الصفقة.
وشهدت الفترة التي تنسم خلالها البرغوثي عبق الحرية في القرية التي نشأ فيها، تغيرات لن ينساها الأسير الذي لم يدر بخلده يومًا أنه سيعود مرغمًا إلى السجون.
تقول حنان البرغوثي، شقيقة الأسير نائل: بعد الإفراج عنه بشهر واحد، تزوج من الأسيرة المحررة إيمان نافع، وعاش معها في بيته الذي بنته العائلة له في القرية. لقد حاول بناء عائلة، لكن لم يُرزق بأبناء.
خلال فترة وجوده في بيته لجأ إلى زراعة عدة أنواع من الأشجار، كما أحب قطف ثمار الزيتون من أشجار القرية، مستغلاً قرار الاحتلال فرض الإقامة الجبرية عليه في مدينة رام الله وحظر الخروج منها، وفق حديث حنان لصحيفة "فلسطين".
وأضافت أن نائل كان مجبرًا على الذهاب إلى مستوطنة "بيت ايل" الجاثمة على أراضي المواطنين الفلسطينيين في محافظة رام الله والبيرة، مرة في الشهر للتوقيع عند ضباط جيش الاحتلال، وإثبات وجوده في المنطقة، تنفيذًا للإقامة الجبرية.
إلا أن انتهاكات الاحتلال بحق البرغوثي لم تثنه عن مواصلة مشروعه النضالي مع زملائه الأسرى القابعين في السجون، فلجأ إلى المشاركة في أي فعالية احتجاجية أو تضامنية مع الأسرى تزامنًا واستمرار انتهاكات إدارة سجون الاحتلال بحقهم، وتشمل الاعتقال الإداري، والإهمال الطبي، واقتحام أقسام السجون لتفتيش غرف الأسرى باستمرار، وعدم الاستجابة لمطالب المعتقلين إداريًا بالإفراج عنهم، وهذا كله لم يرق للاحتلال أبدًا.
وتضيف أن نائل يحمل هم الأسرى ويشغلون تفكيره دائمًا، ولذلك كان يشارك في جميع المناسبات الخاصة بهم، حتى الاجتماعية منها في الأماكن التي كان يقدر على الوصول إليها خلال الفترة التي قضاها حرًا خارج السجون.
وتصفه شقيقته بأنه كان حنونًا ورجلاً في مواقفه.
كما تشير إلى أن فترة السجن الطويلة التي قضاها جعلته لا يعرف أشياء كثيرة نستخدمها في حياتنا اليومية، حتى وصل الأمر إلى عدم معرفته باستخدام التلفون، تلك التكنولوجيا التي غزت الأراضي الفلسطينية المحتلة، ونائل مغيب في غياهب السجون.
وتضيف أيضًا: لم يعرف نائل كيف يعمل الغاز الذي يوجد في أي بيت، وهذا يعود إلى أنه اعتقل عندما كانت والدتنا تطبخ باستخدام موقد النار.. العديد من الأشياء لم يستخدمها في حياته اليومية ولم يلمسها بيده وإن سمع عنها أو شاهدها عبر شاشة التلفاز، وهذا بسبب فترة أسره الطويلة.
ولجأ نائل المكنى بـ"أبي النور"، إلى دراسة التاريخ بجامعة القدس المفتوحة في رام لله، ذلك التخصص الذي أحب دراسته، واستطاع أن ينهي عامًا كاملاً، لكن الاحتلال حال دون ذلك.
ولم يمض أكثر من 32 شهرًا على تحرره، حتى اعتقلته قواتُ الاحتلال والعشراتِ من محرري الصفقة التي حررت خلالها المقاومة 1027 أسيرًا، بينهم مئات المحكومين بالمؤبدات، وأُبعد عدد منهم إلى قطاع غزة، وخارج فلسطين.
وحكم عليه الاحتلال بالسجن مدة 30 شهرًا، وعندما انتهت قرر قاضي محكمة "عوفر" الاحتلالية، إعادة الحكم السابق له، مؤبد (99 سنة) و18 سنة إضافية، بواقع 117 سنة.
تقول حنان: إننا في العائلة ونائل لم نتوقع يومًا اعتقاله مجددًا والزج به في السجون، وإعادة الحكم الماضي له، لقد فوجئنا جميعًا حقًا.
عندما نطق ما يسمى "قاضي" المحكمة بالحكم، تمالك نائل أعصابه وظل شامخًا رغم الظلم الواقع عليه، ووقفت حنان في وجه القاضي قائلة له بتحدٍ واضح: "أنتم إلى زوال، والمقاومة الفلسطينية في ظهرنا، ومثلما أخرجناه من السجون في المرة السابقة سنخرجه مجددًا (...) ستأتي صفقة مشرفة حتى لو طالت".