الانتصار الكبير الذي تحدث عنه حسين الشيخ في مقابلته مع تلفزيون فلسطين في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020؛ يمثل أحد أحدث أشكال "استحمار" قيادات السلطة الفلسطينية لشعبها.
دون كيشوت الفلسطيني تمكن من هزيمة "طواحين الهواء"، وأعاد التموضع الفلسطيني على "الخازوق" الإسرائيلي، ثم بشَّر الفلسطينيين بـ"سراب" الدعم الأمريكي القادم. وبصق، في الوقت نفسه، في وجه المصالحة الفلسطينية، واحتقر الرحلة المضنية التي قطعتها في الأشهر الماضية، وليقول لقوى المقاومة "لا مقام لكم فارجعوا"!! بعد أن باعهم بثمن بخس دراهم معدودة؛ وكان فيهم وفي شعبهم وقضيتهم ومقدساتهم من الزاهدين.
أراد هذا "المستحمِر" أن يعيد الفلسطينيين إلى "بيت الطاعة" الإسرائيلي من خلال "زفَّة" استهبال من الطراز الأول.
منجز بطولي!!
بناء على ما قاله "شيخ التنسيق" وما تداولته الأخبار من تصريحات للرئاسة وقيادات السلطة، فإن السلطة ستعود إلى ما كانت عليه الأوضاع قبل 19 أيار/ مايو 2020، وسيعود التنسيق الأمني والمدني، وستعود المنظمة للالتزام بالاتفاقات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي، بعد أن كانت قد تحللت منها. وهي مستعدة للعودة لطاولة المفاوضات، على وقع آمال بفتح علاقات مع واشنطن تحت حكم بايدن.
أما المنجز "البطولي" الذي تحدث عنه، فقد كان نتيجة الجهود الكبيرة لقيادة السلطة التي وسَّطت بريطانيا وألمانيا وفرنسا والنرويج والصين واليابان ودول إسلامية، للطلب من الكيان الإسرائيلي بإيضاح موقفه من الاتفاقات الموقعة بين المنظمة و"إسرائيل". والمنجز هو رسالة من ضابط في الجيش الإسرائيلي يدعى كميل أبو ركن، ويتولى تنسيق أعمال الإدارة المدنية في الضفة الغربية. وذكر في الرسالة أن العلاقات الإسرائيلية مع السلطة الفلسطينية تستمر في "تشكيل الإطار القانوني المطبق الذي يحكم سلوك الأطراف في الأمور المالية وغيرها".
وبناء على ذلك، أعلن الشيخ أن صفقة القرن وخطط الضم لم تعد موجودة على الطاولة. واستنتج الشيخ أن الرسالة تعني التزام "إسرائيل" بالاتفاقات الموقعة مع المنظمة، كما أضاف من عنده أن مرجعية الاتفاقات هي الشرعية الدولية.
أوجه "الاستحمار"
أما وجه "الاستحمار" في هذا التصريح فهو أن "إسرائيل" عندما كانت (وما زالت) تمارس كافة أشكال التهويد والمصادرة والاستيطان، وتخرق الاتفاقات في اليوم ألف مرة، فإنها لم تعلن رسمياً إلغاء اتفاق أوسلو وما تلاه، وبالتالي بقي الإطار القانوني هو الإطار الرسمي الموجود على الورق، دون أن يلتزم الكيان الصهيوني بوقف الممارسات على الأرض التي لم تأبه أبداً بالأطر الرسمية مع السلطة. وهي ممارسات مستمرة قزَّمت السلطة وحولتها إلى أداة تنسيق أمني، وتابعت مصادرة الأراضي والاستيطان، وتهويد القدس والمقدسات، واستمرت في مصادرة أموال السلطة (المقاصة)، ودمّرت حلّ الدولتين وأنهته على الأرض.
ويدخل في عملية "الاستحمار" تقديم الرسالة الإسرائيلية كانتصار فلسطيني، وهي حتى لو فُهم منها وقف الجانب الإسرائيلي لعملية الضّم وصفقة القرن، فإنه لا علاقة لذلك بـ"الفهلوة" السياسية لقيادة السلطة. فالجانب الإسرائيلي أوقف عملية الضم أصلاً قبل نحو خمسة أشهر (أواخر حزيران/ يونيو 2020) بناء على رغبة أمريكية، ليتيح بيئة أفضل لعملية التطبيع مع بعض البلدان العربية. والجانب الإسرائيلي أوقف العمل بصفقة القرن لأن الجانب الأمريكي الرّاغب بتطبيقها لم يعد موجوداً، بحلول إدارة بايدن مكان إدارة ترامب. أما إن كان هناك شيء يُحسب للفلسطينيين فهو الوحدة الوطنية في وجه صفقة ترامب ومشاريع الضم، وإظهارهم للتضامن في هذا الجانب مع القيادة الفلسطينية، التي خذلتهم مع أول "غمزة عين" أمريكية، حيث أشارت كمالا هاريس، نائبة الرئيس الأمريكي المنتخب (بايدن)، قبيل الانتخابات، إلى عزم القيادة الأمريكية بعد فوزها، على عودة سياستها تجاه السلطة إلى ما قبل مرحلة ترامب.
طعنة وامتهان للمصالحة:
وكان لافتاً "خفَّة" قيادة السلطة في العودة إلى تكبيل نفسها بقيود أوسلو وأغلالها، التي أنهكت شعبها على مدار 27 عاماً، حتى قبل أن يُستكمل الفرز النهائي للأصوات في الانتخابات الأمريكية.
وفي المقابل، كانت هناك "خفة" واحتقار لمسار المصالحة الفلسطينية وترتيب البيت الفلسطيني. فمنذ سنوات لم يشعر الفلسطينيون بأن مسار المصالحة وصل إلى حالة جادة كما وصل إليه هذه الأيام. ولذلك فإن العودة إلى ما قبل 19 أيار/ مايو أثار سخط وغضب فصائل المقاومة جميعها: حماس والجهاد الإسلامي والجبهتين الشعبية والديمقراطية والمبادرة الوطنية.. بعد أن تم شطب أهم العناصر التي اجتمع عليها الفلسطينيون في وحدتهم الوطنية، وبعد أن تمت إعادة السلطة إلى مُربعها الأمني الوظيفي، وبعد أن تابعت أداءها الفوقي "المستحمِر" للآخرين؛ حتى لو كانوا يمثلون أغلبية الشعب الفلسطيني، ويعبّرون عن النبض الحقيقي للأمة وتطلعاتها.
لقد كان إعلان حسين الشيخ ضربة للقاء الأمناء العامين للفصائل، وللقاءات حماس وفتح المتواصلة، التي كان آخرها لقاء القاهرة في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 2020. وكانت قمة الامتهان أن قيادة السلطة لم تكلف نفسها عناء إطْلاع "شركائها" في المصالحة والمشروع الوطني على اتصالاتها، ولا على قرارها العودة لما قبل 19 أيار/ مايو؛ هذا فضلاً عن أن مقتضى الشراكة يعني التشاور والتوافق قبل المضي على هكذا خطوة دراماتيكية.
تشعر قوى المعارضة أن قيادة السلطة تعاملت معها كأداة ضغط مرحلية تكتيكية ومجرد "فزاعة" لتقوية وضعها التفاوضي في التعامل مع الإسرائيليين والأمريكان، وأنها لم تكن صادقة في المصالحة، وأن مجرد انتهاء عهد ترامب يكفي لرمي ورقة المصالحة في سلَّة المهملات أو لوضعها على الرف.
فبينما كان خط مباحثات المصالحة جارياً، كان هناك تواصل سرّي بين قيادة السلطة والجانب الإسرائيلي، وكان لقاء حسين الشيخ مع الضابط كميل أبو ركن في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 هو تتويج للقاءات أخرى وتبادل رسائل جرت بين الطرفين في الأسابيع السابقة، شارك في أحدها رئيس أركان الجيش الإسرائيلي نفسه أفيف كوخافي. وقد أشرف رئيس الوزراء البديل ووزير الجيش الإسرائيلي بيني غانتس على عملية التواصل مع الجانب الفلسطيني. واعتبر غانتس أن فوز بايدن وَفَّر لقيادة السلطة الفرصة للنزول عن الشجرة التي تسلقت عليها!!
اتجاه انبطاحي في السلطة:
هل ثمة اتجاه "منبطح" في قيادة السلطة كان وراء تفجير مسار المصالحة، وكان يتلهف لالتقاط "أي حاجة" من الطرف الإسرائيلي أو الأمريكي ليستلم زمام المبادرة، وليحافظ على مكتسباته الخدماتية في السلطة والتنسيق الأمني، لأن إعادة ترتيب البيت الفلسطيني قد تُزيحه وأمثاله عن المشهد، كما قد تحرمه من فرصة خلافة أبي مازن في قيادة السلطة وفتح؟
ليس مستغرباً، فالتيار نفسه كان وراء إسقاط اتفاق مكة سنة 2007 ونشر الفوضى والفلتان الأمني والاغتيالات لإفشال حكومة الوحدة الوطنية، مما أدى لصراع دموي انتهى إلى حالة الانقسام المعروفة. وهو نفسه التيار الذي كان وراء "تمثيلية" تفجير موكب رئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمد الله في آذار/ مارس 2018، والتي نسفت إجراءات المصالحة بين فتح وحماس في ذلك الوقت. وهو تيار توتيري يرى بقاءه من خلال تهميش الآخرين وإلغائهم، ولا يؤمن بشراكة وطنية حقيقية.
الذين تابعوا جهود المصالحة شهدوا لجبريل الرجوب ورفاقه بالحرص على مسار المصالحة والعمل على تنزيل برنامج الوحدة الوطنية على الأرض؛ وأن الرجوب ورفاقه فوجئوا بتصريحات الشيخ، حيث تلقى تيار الرجوب في فتح ضربة قاسية كما تلقاها رفاقهم في الفصائل الفلسطينية.
سيكون حسين الشيخ وتياره سعيدين بحالة التوتير والتصعيد والإحباط التي نشأت بعد تصريحه، ولن يبالوا بردود الفعل الفلسطينية والفصائلية، لأنها بيئة تخدم استمرار الانقسام، وتهدم ما بُني من ثقة في الأشهر الماضية؛ وهي البيئة الأفضل لتنفيذ أجندتهم.
المقاومة وبلع السكين:
من جهة أخرى، فإن قيادة فتح قد تدعو حماس وباقي الفصائل لاستكمال المباحثات بشأن المصالحة الوطنية والانتخابات، حتى بعد عودة السلطة للالتزام بالاتفاقات؛ بحجة أن السلطة لم تترك أصلاً مربع التسوية، وأن عودة السلطة للالتزام بالاتفاقات لا تؤثر في الانتخابات والاستحقاقات الفلسطينية الداخلية. وعلى حماس والفصائل عندئذ أن "تبلع السكين"، فإن وافقت فستوافق ضمن ظروف بئيسة يتم التعامل فيها مع ملف المصالحة من قبل السلطة في إطار تكتيكي وظيفي، وإن رفضت فسيتم اتهام حماس وقوى المقاومة بإفشال مسار المصالحة.
الحمار والجزرة:
وأخيراً، فإن قيادة السلطة (إذا أصرت على موقفها) لن يختلف سلوكها عن سلوك الحمار الذي توضع أمامه الجزرة، وسترضى بالجزرة التي سيعاد وضعها أمامها في عهد بايدن، وسيواصل الحمار سيره أملاً في أن يأكلها.. ولن يأكلها.. لكنه سيواصل سيره، لأن الحمار يظل حماراً!!