قائمة الموقع

كمال أبو وعر.. تحررت الروح و"الجسد يكمل المؤبدات الستة" بـ"مقابر الأرقام"

2020-11-17T12:04:00+02:00

صيحات ترهيب وترويع، وصوت يتحدث العربية بلكنة عبرية: "قول آسف!"، نبرة جواب كمال أبو وعر كانت أقوى وهو يُقتاد إلى جلسة المحكمة مقيدًا: "مش آسف.. الله أكبر!"، ثم تعالى صوت السجان المختلط بوقع الضربات واللكمات "قول آسف"، مكررًا إياها ثلاث مرات، فدوت صيحة "الله أكبر؛ الله أكبر" منه ومن الأسرى الموجودين بالمكان، ومرت ثواني قليلة حتى افترش غاز الفلفل المكان واختلط مع أمعاء الأسرى.

رفضت ابتسامته الهادئة الانصياع لاستفزازات جنود الاحتلال، وعينه تنظر إلى أدوات القمع المجهزة، كانت الحركة غريبة، وتحركات "الحراس" سريعة، فغاب جسده المقيد بين أجسادهم ومرت لحظات أخرى، استيقظ من غيبوبة قصيرة، مضرجًا بدمائه.

مشهد يقف على نوافذ ذاكرة الأسير المحرر باسل كتانة، وهو ينفض غبار النسيان عن رفوفها: "أخبرني يومها بسبب الاعتداء، وقال: "يتهمونني بقتل الجندي الدرزي (المدعو) مدحت يوسف في أثناء معركة قبر يوسف مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام ٢٠٠٠، وقائد وحدة الحراس ضابط درزي، حاول أن ينتقم (...) حاول أن ينتزع كلمة، لو انتزع روحي مكانها لكان أهون علي".

كان ذلك أول موقف جمع الأسير باسل كتانة بالأسير كمال أبو وعر، في غرف الانتظار، يأتي كلامه من خلف ليالي المعاناة تلك: "تعارفنا في سجن هداريم، كنا ننتظر ترحيلنا إلى المحكمة العسكرية، لم أكن أعرف من هو، إلا أنه كان يتسم بالهدوء والابتسامة الآسرة، فتعارفنا كما هي العادة بشكل سريع، فسنقضي معًا عدة أيام قاسية سفرًا في الصناديق الحديدية المعروفة باسم البوسطة".

"بعد يوم وليلة، بدأت أدرك أن له أمرًا مخفيًا خلف تلك الابتسامة، والتي كانت تزداد وتظهر، وكان فيها روح التحدي كلما ظهر أمامنا أفراد الوحدة التي تسمى "نحشون".. وهي الوحدة الخاصة المدربة بعناية عالية لمرافقة الأسرى في أثناء السفر، ومن أهم أبجديات تدريباتهم، العنف والحدة والقسوة مع الأسرى، وحدث موقف الاعتداء عليه فعرفته أكثر".

افتراق الأصدقاء

دامت صداقة لم يطُل حبل ودِّها، فباسل وكمال، كان عليهما الافتراق، أبعدهما الاحتلالُ كلٌّ إلى قسم، وبقيت روابط الصداقة على قصرها حيَّة بداخلهما، "لم تجمعنا مواقف كثيرة، لأنه جرى فصل الأسرى، ربما لم أكن من الدائرة القريبة منه لكنه إنسان رائع أفتخر عندما أقول عنه صديق".

أصوات المآذن بالمدينة تنعى شهيدًا، وصلت حروفه متقطعة لمسامع باسل كتانة، وهو يسير بالشارع، حاول الإنصات، التركيز للاسم دون جدوى أمام ضجيج المركبات، أكمل مسيره، فتح حسابه الشخصي في فيسبوك، لتطل عليه صورة الأسير كمال وقد استشهد نتيجة إصابته بالسرطان وفيروس كورونا، أغلق عينيه عائدًا بذاكرته لموقف بقي عالقًا في الذاكرة عام 2004م رواه على صفحته الشخصية، وعلق عليه على طرف سماعة الهاتف الأخرى لصحيفة "فلسطين".

وأسر الاحتلال الإسرائيلي كمال أبو وعر سنة 2003، وحكم عليه بالسجن المؤبد 6 مرات و50 عامًا، وتعرض لتحقيق قاسٍ استمر 100 يوم، وفي نهاية 2019 أصيب بسرطان الحنجرة وتفاقم وضعه الصحي لاحقا وحُرمت عائلته من زيارته لثلاث سنوات متتالية بعد أسره، ولم يتمكن أشقاؤه من زيارته إلا قبل عام فقط، وقبل مرضه شارك الأسير أبو وعر في كل الإضرابات المفتوحة عن الطعام وكان آخرها في 2017، قبل أن يعلن عن استشهاده داخل السجن قبل أيام.

اكتشاف متأخر

من الداخل هناك معاناة أخرى، 15 سنة مرت بخطوات ثقيلة تركت أثرها على ملامحه وجسده، دخل السجن خاليًا من الأمراض التي تفشت بعد ذلك، شقيقه محمد يدخل لقلب الحالة الصحية "لم يكن يعاني أمراضًا على مدار 15 سنة، ولكن في 2019، بدأ يعاني السرطان، ثم أصيب بفيروس كورونا في سبتمبر/ أيلول الماضي، وشفي منه، إلا أنَّ تجدد ورم السرطان في الحنجرة أزم حالته، ووصلت الأمور لفقدان النطق وانتظرنا نبأ استشهاده الذي صدمنا".

منذ مارس/ آذار الماضي، قطعت زيارة الأهل، وغابت أخبار كمال في زحمة الأحداث، في داخل جسده كان السرطان يستشري أكثر فأكثر، لا أحد يسمع صوت تألمه، إلا قضبان السجن، "لم نزره مطلقًا، سواء وهو بسجن جلبوع أو (ما تسمى) بعيادة سجن الرملة (...) يصعب علينا أن يستشهد أخي كمال ولم نسمع صوته مطلقًا، فقط نعلم أخباره من خلال محامٍ، وهي أخبار عامة ألا نقلق عليه، وأنه بخير".

تنهيدته هنا مثقلة بالأحزان "ما زلت لا أصدق أنه رحل وغاب صوته".

"أتدري.. كان الاحتلال يقيده في كل مرة يذهب لتلقي العلاج، رغم أنه مريض" خرجت من شقيقه تنهيدة أخرى، سبقتها كلمات رحمة على روحه "أيضًا؛ كنا نشعر بالقلق يوميًّا منذ 2019م، ننتظر خبرًا جديدًا".

أسر محمد ثلاث سنوات، في سجن "مجدو" الذي وُجِد فيه حينها شقيقه كمال، حاول الشقيقان بشتى الطرق الالتقاء في غرفة سجن واحدة، لكن الاحتلال يمنع هذا الاتحاد الأسري، حتى لو كان مغمسًا بمرارة السجن، يريد أن تبقى المعاناة والفرقة، حاضرة دومًا في حياة الأسرى في عالم "المنسيين"، يتذكر محمد تلك المحاولات "قدمت طلبًا للذهاب إلى غرفة أخي أربع مرات، وفي كل مرة يرفض الاحتلال حتى انتهت فترة محكوميتي، لم يكن التواصل بيننا سوى من خلال الأسرى".

"ألوان الوحدة"

"مواقفه مشرفة هو إنسان وحدوي بامتياز، صاحب همة عالية، يرفض التفرقة بين الأسرى، نشهد له أنه حافظ على تجميع العلاقات الفصائلية، يعتبر الجميع مناضلين ورفاق خندق واحد".. كلمات رثاء خرجت من الأسير المحرر سامر درويش الذي أمضى 19 عامًا داخل سجون الاحتلال وتحرر قبل أيام.

احترقت قلوب الأسرى على رحيل الأسير المريض كمال، واشتعلت نيران الغضب داخل صدوره وحناجرهم التي دوت "الله أكبر" من نوافذ غرف السجون، يقرعون أبوابها معبرين عن غضبهم، "استشهد قبل ما أروح بيوم، الحالة اللي كان فيها صعبة، لما استشهد كانت لحظات صادمة" ما زال تأثير تلك الصدمة حاضرة في حديثه الأسير سامر.

"لماذا استاء الأسرى؟.. كمال لن يكون الوحيد، لأننا أمام احتلال جائر، وما زال يمارس كل الوسائل القمعية لذلك كانت الصدمة، يعتمد على الموت البطيء، والعلاج المتقطع، والتشخيص المتأخر حينما يستشري المرض ويصعب علاجه فيعلنون نتائج الفحوصات".

ينبش في وسائل الإهمال الطبي، "الأمراض المزمنة سببها عدم إعطاء الفحص اللازم، وتأجيله، وعدم وجود طبيب، الدور الطويل في العلاج".

أصوات المهنئين تقترب من سماعة الهاتف، توقف درويش عن الحديث، غاب برهة سرعان ما أكمل حديثه تشده ذكريات اللقاءات معا "ربما لم نلتقِ كثيرًا، المرة الأولى عام 2004م في سجن هداريم، وقبل ثلاثة أعوام في سجن جلبوع، كنت في قسم مختلف عنه لكن شباب القسم كانوا يطلبونه للزيارة ونلتقي في الزيارات (...) حزنت بشدة على رحيله فهو أسير ضحى من أجل فلسطين، والمقاومة ومقارعة السجان، وهذه القائمة كل شهر تضم اسمًا جديدًا مما يتطلب من الفصائل والمؤسسات المعنية التحرك".

استشهد الأسير كمال (46 عامًا) فيما تعرف بـ"مستشفى أساف هروفيه" الإسرائيلي بعد شهور من المطالبات الفلسطينية والحقوقية الدولية بالإفراج عنه لإنقاذ حياته، والتي ضرب بها الاحتلال عرض الحائط.

كان أشبه بجسد ينبض روحه، فقد النطق، يتغذى بواسطة أنبوب زرع له، وقبلها عاش على أنبوب تنفس صناعي بسبب فيروس كورونا، حتى تحررت روحه من براث السجن، وغياهب الألم والعذاب، ومعاركه مع السرطان، وبقي جسده المنهك والمحمل بالهوم يكمل حكم المؤبدات الستة، ولكن في "مقابر الأرقام"، هذه الحكاية لا تروى في روايات خيالية، بل تبدأ فصولها وتنتهي في سجون الاحتلال "عالم المنسيين" الأحياء.

اخبار ذات صلة