قائمة الموقع

"سميح قعدان".. يطيح بـ "رزنامة الانتظار" عن "عرش ذاكرته"

2020-11-17T11:25:00+02:00

من قال إن الانتظار لا يعذب قلبًا يقف على ضفته الأخرى منذ ستة عشر عامًا، ينتظر ابنه المُغيب "قسرًا"، تَمضي أيامٌ فوق ملامحه بخطواتٍ ثقيلةٍ، ينسكب فيها الوجع على غياب "عبد الرؤوف"، بعد أن عذبته أيام الانتظار، وأكلت من عمره تعرجات وجهه التي روتها دموعٌ سقطت وهو يقف على "شرفة الأمل" يرقب يومًا يؤمن أنه يسد ظمأ شوقه لمعانقته.

ولأن الأعوام تمر والوقت لا ينتظر أحدًا مرت سنوات أسر عبد الرؤوف قعدان في سجون الاحتلال الإسرائيلي، واقترب حلم والده وبقي عام فقط ليحلق على جناحي الحرية خارج ظلام السجون.

وجع لم يشعر به في هذا العام سوى تلك "الرزنامة" وصوت صرير القلم الأحمر وهو يتعارك مع المربعات البيضاء في شطب كل يوم يمضي إلى غير رجعة، يخوض ملحمة الانتظار مع 365 يوما متبقية للحرية، فكان الوقت يمر على قلبه أشبه بسلحفاة مسنة تجر خلفها حجارة ثقيلة، فكأنه جامد لا يتحرك.

تلك المربعات هي التي كانت تسمع صوت معارك الحاج سميح قعدان الذي طرق الـ77 من عمره، تسمع هشاشة قلبه المشتاق، ونبضات حنينه المتسابقة على مضمار البعد، كومة مشاعر مؤججة بداخله أيضًا مع اقتراب الوقت، فرح، حزن، دموع، سهر، انتظار، لا يعلم بثقلها إلا قلبه وتلك الأوراق التي جعلها مساحة لتفريغ مشاعره لها، ويااه لو باستطاعتها أن تحمل عنه ثقل الأيام، لتخبره أن الوقت حتما سيمر وإن مر بطيئا أكثر مما يجب، فهذه الدقائق ليست لها محطات للتوقف.

"صعوبة الانتظار"

تحت خمس صور تحيط به من كل جانب لنجله "عبد الرؤوف" يجلس الحاج سميح في بيته بمحافظة رفح جنوب القطاع، تلمح في عينيه نظرة مترعة بحزن غريب لا وصف ولا تفسير له، تركت الدموع التي سالت مع مرارة الأيام نفسها على الشقوق المتعرجة أسفل عينيه، يفتح قلبه لصحيفة "فلسطين" ويبدأ من حكايته مع الرزنامة: "كنت متلهفا لمرور الوقت فصممت رزنامة تضم 365 مربعا بعد تنازلي، في كل يوم كنت أشعر بارتياح وأسر مع شطب يوم جديد، خاصة حينما انتقلت من فئات المئات إلى المئتين ثم المئة ثم العشرات".

يغوص إلى معاناته من الداخل "بداية كنت أتعامل على أن الوقت طويل، كلما اقترب الفرج زاد صعوبة طوال اليوم مع صعوبة الانتظار، حتى بقي 30 يوما، كنت أتلهف لشطب اليوم، أشعر بأني خرجت من مسافة لأخرى (...) في بداية صدور الحكم البالغ 16 عامًا اعتبرته وقتًا لا يعد، لكن السنة الأخيرة أصبحت أياما وكل يوم له وزنه .. بمجرد شطبه يزيل عن كاهلي همه، ثم أنتظر يوما جديدا".

ينفض غبار الانتظار عن رفوف قلبه، يراجع تلك الأيام التي لن ينساها فقد أوجعته لحد القهر وقد تجمعت بعض الدموع على حواف عينيه "بقيت أربعة أيام على الإفراج عنه، شعرت أنها أثقل من السنة كلها، وكأنه مغناطيس يشد الوقت لا يسمح له بمواصلة مسيره، أنظر إلى الرزنامة المعلقة أمامي بغرفة نومي أشعر بمرارة الأيام".

بدأ العبء يزداد يشعر أن حسابات اليوم تختلف، ولا يدري أن حسابات الانتظار لها قوانين لا يوجد لها بداية ولا نهاية، هي فقط تؤجج المشاعر وتحرق نيران القلب وتقضم جدران صلابته حتى يذوب في بحر الحنين، يجدف بمجداف الصبر للوصول إلى ضفة الأمل واللقاء.

أخيرا بانت ضحكة من الحاج سميح "جاء آخر يوم، فعزمت ألا أشطبه، وتركت هذا المربع لابني عبد الرؤوف، لكنه كان أطول يوم بحياتي لا يريد التحرك .. أعد الثواني والدقائق، كحال أهالي الأسرى الملهوفين لاستقبال أبنائهم، فوصلت الساعة الواحدة ظهرًا عند حاجز بيت حانون/ إيرز، أنتظر ثم أنتظر يوم الخامس من نوفمبر/ تشرين ثانٍ 2020".

معارك انتظار

مرت الساعة الأولى ولم يطل عبد الرؤوف من خلف بوابة الحاجز، يقف على نوافذ ذلك المشهد: "مع كل ساعة كنت أنظر للبوابة، عيني عليها لا تفارقها وكأني سأعيش انتظار جديد مع هذا الباب، حتى مرت خمس ساعات وأخبرت أنه خرج لكنه سيتم حجره بسبب فيروس "كورونا"، حينها ألقيت وابل اللعنات على هذه الأزمة، فلم أحتمل انتظاره 14 يومًا، الحقيقة أن قلبي أصبح هشًا، تحملت تلك الرزنامة بمرارتها ولم أقوَ على المزيد، عدت للبيت أشيع فرحتي المكسورة".

إلا أن اتصالا وصله في اليوم التالي، أخبره أنه "سيرى ابنه اليوم ولن يتم حجره"، طارت الفرحة من قلبه، وقفزت أستقل سيارة طوت الطريق بسرعة، وفي داخله تسابقت كل مشاعر الشوق والفرح، نصف ساعة مضت فقط حتى وصل الفندق الذي حجر فيه عبد الرؤوف.

وصل ولم يتلفظ بأي كلمة، فقط عانقه وطالت مدة العناق، شد ابنه بين ذراعيه بقوة، تهاوت منه الدموع على كتفه "وسقطت رزنامة الانتظار عن عرش ذاكرته" وطوت معها أيامها المرة، ثم أطلق له العنان ليستقبل المهنئين الآخرين.

"ما كنتش حاسس بالناس اللي حولي ولا بالدنيا كلها، كانت اللهفة اله، كأني حاضن الدنيا كلها، كل انسان بغيب عنه ابنه بعيش نفس الشعور، ولما يكون عند اعداء مثل ابني شعرت كانه انسان ميت وجاء اللي حي"، مضت خمسة أيام على عودة عبد الرؤوف إلى بيته يحمل معه سنوات عمره البالغة ثلاثة وأربعين عاما، وقد خرج منه ولم يتجاوز السابعة والعشرين.

خمسة أيام مضت "أحلى من العسل" على قلب والده، يسهر يمضي جل وقته مع عبد الرؤوف، وكأن الفرح أيضا ارتد إلى قلبه، "فرحت بلقائه، وبمشاركة الناس هذه الفرحة، شعرت بأن كل الناس يشتاقون له، المشهد بحد ذاته أشعرني بالفخر والاعتزاز، وكم هو غال على الجميع".

تطير ذاكرة الحاج، يقلب في دفتر معاناة آخر "حرمنا زيارته منذ 2006 حتى 2012م، وانقطع التواصل، وكنا نعرف أخباره من المحررين أو بعض الرسائل، وما أن استُؤنفت كنا ننتظر الزيارات بشوق مع والدته".

أمنية أمه لم تتحقق

في آخر أربع سنوات أثقل المرض كاهل والدته المسنة، فلم تستطع أن تحملها قدماها إلى سجون الاحتلال، واكتفت بإرسال أشواقها إليه تحمل والده دموعًا تسيل حزنا على حالها، تتمنى أن تلقى ابنها، دغدغ الموقف مشاعر الحاج سميح مسح دمعة هربت منه "كان الأمر صعبا عليهما، فقد أقعدها المرض، كونها متعلقة به لأنه آخر العنقود من الأبناء".

تحضره كلماتها، وقبل أن يتحدث ترحم على روحها "الطاهرة" "لما أعود من الزيارة تسألني- "بحياة الله يا حج ما تحكي إلا الصحيح، كيف العبد ..عيان، سليم" كنت أعطيها إجابة ترضيها، وقبل أن أغادر للزيارة توصيني "سلم على العبد وأحكيله بتسلم عليك أمك، نفسها تعيش لحد ما تطلع، بس أشوفه وأموت".

رحلت أمه قبل أن تكحل عينها برؤية عبد الرؤف، تركت تلك الغصة حاضرة في حياة العائلة، والآن أذابت صلابة الحج سميح تساقطت معها دموعه "مررت بأصعب ثلاثة مواقف، الأول يوم اعتقال عبد الرؤوف إلى سجن الأعداء (الاحتلال)، ويوم أن صدر حكم بسجنه 16 عاما، فأخذنا وقتا كبيرا حتى استوعبنا الأمر، ويوم وفاتها توليت مهمة اخباره بالنبأ بعد أيام، صدم لأجل ذلك، واستمر أربعة أيام لا يأكل، وحينما خرج ذهب إلى قبرها وحدثها وبكى عليه كثيرا، ورفض أن يشطب المربع الأخير من الرزنامة إلا حينما يتحرر آخر أسير".

حضر حديثنا سمير، ذلك الطفل الذي اعتقل والده وهو جنينٌ في بطن أمه، والآن كبر وأصبح شابًا عمره 15 عاما ونصف، لا زال يعيش على وقع صدمة لم يتخيلها "منذ أن أصبحت طفلا يفهم، كنت دائم السؤال "أين أبي؟"، ولا أجد إجابة أفهمها، لم أتحمل مشاهد رؤية الأولاد في أحضان والدهم وأنا دونه، أتمنى أن يكون بقربي، بجانبي أعيش لحظات الطفولة معه وتكون حياتي سعيدة لكنه الاحتلال حرمني منها".

هنا محطة أصعب "واجهتني مشاكل عدة أثناء محاولة زيارته، منعني جنود الاحتلال الدخول عنده في أول زيارة، لا زلت أذكر تفاصيلها جيدا، يومها لم يسمح جندي الاحتلال لي رؤية أبي، فقد كان عمري ثماني سنوات، وظن أني أفوق سني بسبب طول قامتي وتكررت المشكلة في كل زيارة، إلا أن الأسرى تضامنوا مع أبي ورفض الخروج لرؤية عائلاتهم، إلا إذا سمح لي بالدخول وهو ما وافق الاحتلال عليه لكني لم أحضنه ورأيته فقط من خلف الزجاج".

"لم أستوعب بعدُ أنَّ أبي بقربي وأخيرا انتهت عذابات الانتظار، لأني كنت أشعر بصوته فقط على الهاتف، مع كل مكالمة من السجن، وحينما تنتهي لا أنسى، لأنني لم أحضنه وأعانقه" صوته ملامحه تروي قصة حزينة من فصول الوجع والقهر "الآن؛ أجلس بقربه لا يفصلني زجاج، ولا سياج، أعانقه كل يوم، لعلي أعوض مرارة الحرمان الذي عشته".

 

 

 

اخبار ذات صلة