أكدت "كتائب القسام" الجناح العسكري لحركة "حماس"، أناغتيال القائد القسامي أحمد الجعبري في الرابع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2012م، شكّل اندلاع شرارة معركة (حجارة السجيل) لتكون محطة هامة من محطات الصراع مع العدو ونقطة انطلاق نحو مشروع التحرير.
وقالت الكتائب عبر موقعها الإلكتروني، اليوم السبت: "رحل القائد المجاهد بعد مسيرة جهادية مشرّفة بدأها بالمشاركة في تأسيس اللبنات الأولى للعمل الجهادي في فلسطين، واختتمها بصفقة وفاء الأحرار، ثم كتب الله له تأدية فريضة حج بيت الله الحرام بعد أن تحقق حلمه بحرية الأسرى وقرّت عينه بجيش القسام، وبعد عامين فقط زلزل القسام (تل أبيب) بصواريخ الجعبري المطورة في تحدي الساعة التاسعة، الذي عجز فيه الاحتلال عن التصدي لهذه الصواريخ".
وقدمت الكتائب للجمهور تفاصيل جديدة تروى لأول مرة عن حياة وبطولات الجعبري، وقالت:" عند الحديث عن أبي محمد الجعبري فإنه لا يمكن لبعضٍ من العبارات الإحاطة بجميع صفاته ومواقفه وإسهاماته الجمة في مسيرة القسام والمقاومة، لكننا هنا نسرد بعضاً من مناقبه ومواقفه؛ وفق ما يُسمح بنشره وتتيحه هذه السطور".
ميلاد قائد
على جبل عرفة، وأثناء أداء الحاج سعيد خليل الجعبري برفقة زوجته لمناسك الحج، شعرت الزوجة بحركة طفلها لأول مرة، وبعد أشهرٍ قليلة كان ميلاد القائد المجاهد أحمد سعيد الجعبري بتاريخ 4/12/1960م، لعائلة مسلمة مرابطة تعود أصولها إلى مدينة الخليل.
درس شهيدنا المرحلة الابتدائية في مدرسة حطين، والإعدادية في مدرسة الهاشمية، والثانوية في مدرسة يافا، لينتقل بعدها لمرحلة أخرى تحمّل فيها أعباء ومسؤوليات العائلة فعمل في مجال البناء.
ورغم انقطاعه عن الدراسة لأكثر من 12 عاماً إلا أنه عاد إليها مجدداً، ليلتحق بالجامعة الإسلامية بغزة لدراسة تخصص التاريخ، ويتمكن من الحصول على شهادة البكالوريوس ومن ثم الماجستير في ذات التخصص، حيث كانت رسالة الماجستير خاصته تتحدث عن الشهيد القائد إبراهيم المقادمة.
حياته الاجتماعية
تزوج أبو محمد للمرة الأولى عام 1980م، وأنجب من زوجته الأولى 6 أبناء وبنتين استشهد اثنان منهم (محمد ومالك)، وفي عام 2005م تزوج الزوجة الثانية وأنجب منها 4 أبناء وبنتاً، ورغم الحياة الصعبة التي عاشها شهيدنا القائد، بدءاً من الاعتقال وما تبعه من مطاردة وانشغال بالعمل الجهادي، إلا أن ذلك كله لم يكن عائقاً أمامه في صلة رحمه وزيارة الأهل والأصدقاء والجيران.
كانت مودته وزياراته للجميع لا تتوقف في الأفراح والأتراح، وإن غاب يوماً فإنه كان يرسل من ينوب عنه حاملاً معه ما يلزم؛ إن كان لدعم شابٍ مقبل على الزواج، أو الوقوف بجانب عائلةٍ فقدت سندها، أو مواساة لجريح، أو غير ذلك من الأمور التي كانت لها أهميةٌ كبيرة في حياة شهيدنا.
في حقل الدعوة
تعلّق قلب أبي محمد بالمساجد، فكانت بداية التزامه في مسجد التوفيق منذ تأسيسه عام 1976م، وكان برفقته في ذلك الوقت عدد من الإخوان من بينهم القائد المجاهد خليل الحية والشهيد القائد عز الدين الشيخ خليل وغيرهم من رجال الرعيل الأول للدعوة والحركة الإسلامية في شرق غزة.
انتقل نشاط أبي محمد الدعوي بعدها إلى مسجد الإصلاح بعد انتقاله للسكن هناك، وفي ذلك المسجد تعرّف على الشيخ المؤسس أحمد ياسين، وواظب على حضور دروسه الأسبوعية، كما تعرّف في ذلك الوقت على الدكتور الشهيد إبراهيم المقادمة.
كما نشط القائد الجعبري في الرحلات الدعوية بين عامي 1978م و1979م، وتنقل بين كفر كنة وأم الفحم والسخنة وطبريا في الداخل المحتل، وكان له دورٌ في تأسيس المجمع الإسلامي، كما كان له شرف مرافقة الشيخ أحمد ياسين في تلك الفترة.
ساهم أبو محمد عام 2003م بتأسيس مسجد المرابطين شرق حي الشجاعية، وبقي مواظباً على حضور الجلسات الدعوية والفكرية وإلقاء المحاضرات بالرغم من انشغاله بالعمل العسكري في ذلك الوقت، ثم بأعباء عضوية المكتب السياسي لحماس.
شرارة المواجهة
بدأ شهيدنا رحلة مقارعة الاحتلال حين كان في المرحلة الثانوية، حيث كان ينطلق برفقة أصدقائه لرشق جيبات الاحتلال بالحجارة، وإشعال الإطارات ووضع المتاريس في طريق الدوريات الصهيونية، وقد كان يحدث أصدقاءه بأنه لابد من استخدام القنابل بدلاً من الحجارة، وهو ما تحقق بالفعل بعد ذلك.
ففي عام 1982م تمكن مجاهدنا من الحصول على قنبلةٍ يدوية من ابن خاله، الذي كان أحد أعضاء قوات التحرير، واستطاع تنفيذ أول عمليةٍ جهاديةٍ بعد أن ألقى القنبلة تجاه مركبةٍ صهيونيةٍ قرب سوق "السكة"، ليعتقله العدو على إثر ذلك ويقضي 90 يوماً في أقبية التحقيق دون أن يعترف بكيفية حصوله على القنبلة.
في سجون العدو
وجهّت المحكمة الصهيونية للقائد الجعبري 20 تهمةً إحداها إحضار السلاح من منطقة الطيبة والطيرة وقررت سجنه 13 عاماً، وفي عام 1985م تم إدراج اسمه في صفقة تبادل أحمد جبريل إلا أن العدو قرّر عدم الإفراج عنه.
تنقل أبو محمد خلال أسره بين سجن غزة المركزي وسجن بئر السبع ونفحة، وقضى الفترة الأكبر في سجن عسقلان، وقد عرف بين إخوانه الأسرى بشخصيته العسكرية الحازمة، وفي الوقت ذاته بروحانيته وتواضعه وعلاقاته الأخوية المميزة والراقية.
ورغم مرارة الأسر والاعتقال وظروفه القاسية، كان أبو محمد مثقفاً محباً للقراءة يجيد التحدث باللغة العبرية بطلاقة، وهو ما أهله لكي يمثل الأسرى، ويقارع مصلحة السجون ليحقق مطالبهم العادلة، فكان ممثل حماس في السجون خلال عامي 1988م و1989م.
لن أوقع
خلال اعتقاله تم مساومة أبي محمد عام1992 م ليتعهد بالتوقف عن مقاومة العدو، ويعترف بمعاهدات التسوية مع الاحتلال، فكان رده رحمه الله: "لن أوقع على شيءٍ يمنعني من حقي في المقاومة، ولن أسجل في تاريخي أنني كنت يوماً من الأيام مع أوسلو ولو بجرة قلم".
ومن المواقف التي يذكرها من رافقه في أسره، رده على مدير سجن عسقلان حين سأله: "علاقتي طيبة معك داخل السجن، فكيف ستكون علاقتك بي حين تخرج؟"، فرد أبو محمد: "سوف أقتلك لو رأيتك على باب السجن، فأنت عدو الذي سرق أرضي".
عودة لميدان المواجهة
كان لخروج القائد أبي محمد من سجون الاحتلال عام 1996م صدىً وأثرٌ كبير في نفوس أهله وإخوانه ومحبيه، وفور وصوله لمنزله قال لأهله وأحبابه: "نحن خرجنا من السجن، وها نحن نعود لخدمة أبناء شعبنا، وأؤكد لكم بأن معاناة الأسرى لن تطول وسيخرجون بإذن الله عما قريب".
وبمجرد خروجه من الأسر عاود نشاطه الجهادي، ولم يقتصر ذلك على العمل الميداني بل تعداه إلى توفير الدعم المالي في ظل ضيق ذات اليد، ومن ذلك مشاركته في توفير الدعم المالي لعمليات الثأر المقدس عام 1996م، وكذا المشاركة في تجهيز الاستشهادي صهيب تمراز الذي نفذ عمليته عام 1998م في محررة "غوش قطيف" وأسفرت عن مقتل جندي وإصابة آخرين.
ظلم ذوي القربى
على إثر عملية صهيب تمراز اعتقل في سجون السلطة ومكث 10 أشهر في التحقيق بسجن الأمن الوقائي، لينتقل بعدها أبو محمد إلى سجن السرايا بغزة، وماهي إلا شهور حتى اندلعت انتفاضة الأقصى عام 2000م، ليتمكن القائد برفقة الشهيد إبراهيم المقادمة وإخوانه من تحطيم أبواب الزنازين والخروج، ليلتحقوا بركب الجهاد والمقاومة، وتبدأ رحلة قيادة الجعبري مع إخوانه للعمل العسكري الذي اشتعلت جذوته خلال سنيّ الانتفاضة.
القائد الإنسان
وفي إطار تعزيز صمود الجبهة الداخلية، والوقوف إلى جانب من ضحى وقدم الغالي لأجل قضيته، ساهم القائد أبو محمد بتأسيس جمعية النور الخيرية وغيرها من الجمعيات التي قامت ولا تزال على الاهتمام بأسر الشهداء والأسرى، وتقديم الرعاية للجرحى والمصابين.
ولم يكن شهيدنا القائد يؤمن بالتوجيه عن بعد، فعمل جاهداً على التواجد بين إخوانه المجاهدين في الميدان، خاصةً خلال الاجتياحات المتكررة لقوات الاحتلال للمناطق الحدودية خلال الانتفاضة، كما عمل على قيادة الوحدات التنظيمية المختلفة مستثمراً كافة القدرات والمهارات لإخوانه، معتمداً مبدأ الشورى في العمل، إذ كان يتنازل عن رأيه لصالح رأي الأغلبية.
الجيش الشعبي والأكاديمية العسكرية
بقرارٍ من الشيخ أحمد ياسين، تم تكليف القائد الجعبري بتشكيل الجيش الشعبي ليعمل بالتوازي مع تشكيلات كتائب القسام في ذلك الوقت، فبدأ أبو محمد عمله يسابق الزمن، وواصل الليل بالنهار لبناء الهيكل التنظيمي وتسليح المجاهدين وتطوير قدراتهم، ليشكلوا فيما بعد إضافةً نوعيةً لكتائب القسام.
ويعتبر أبو محمد الجعبري أحد أبرز مؤسسي أكاديمية فلسطين العسكرية التابعة لكتائب القسام، حيث بدأت فكرتها بجهود أبي محمد وعدد من إخوانه، وهي تُعنَى بنشر الفكر العسكري لدى أبناء القسام والفصائل الأخرى، وذلك لأهمية الدراسة الأكاديمية والمنهجية العلمية في تطوير الكادر العسكري والقيادي، ويتم ذلك من خلال دراسة الفكر والتكتيك العسكري وتجارب الجيوش المختلفة وغيرها، إضافة إلى الدراسات المتخصصة في الأسلحة القتالية المختلفة.
قائد استراتيجي
تميّز أبو محمد بصفاتٍ ومميزاتٍ قيادية، برزت في مختلف مراحل العمل الجهادي ومفاصل العمل التي كان على رأسها، وأبرزها كونه نائب القائد المجاهد محمد الضيف حفظه الله، وقد كان دائم التواصل مع إخوانه يوجّه ويقوّم ويتابع، فكانت عشرات المراسلات التي تحمل التعليمات والقرارات تصل يومياً للمجاهدين في مستويات مختلفة موقعة باسم "عبد الرحمن"، وكانت في غالبها مكتوبةً بخط اليد، والحاج عبد الرحمن هذا لم يكن سوى أبو محمد الجعبري.
وقد حرص خلال سنيّ عمره على تعزيز الإمكانات المادية لتمويل المشاريع الاستراتيجية للمقاومة على مستويات مختلفة أبرزها: التصنيع العسكري والاتصالات والإمداد وغيرها، كما كان له دورٌ بارزٌ في تأسيس دائرة الإعلام العسكري.
ولم يكن شهيدنا يألو جهداً في توفير المواد الخام اللازمة للتصنيع، أو شراء الصواريخ والأسلحة النوعية والإنفاق عليها، باذلاً في ذلك كل ما يملك من وقت ومال وجهد بمساعدة وهمة إخوانه من القادة والمجاهدين، وقد أثمرت رؤية وجهد القائد وإخوانه بعد سنواتٍ قليلة، حيث زادت أعداد المجاهدين وزاد تسليحهم، ورأى الصديق والعدو كيف أصبحت كتائب القسام جيشاً يحسب له العدو ألف حساب، وبعد عامين فقط على استشهاده وقف العدو عاجزاً أمام صواريخ الجعبري المطورة التي دكت "تل أبيب" في تحدي الساعة التاسعة.
وفاء الأحرار
بقي حلم تحرير الأسرى يراود أبا محمد ولم يغب عن باله أبداً، فعمل مع إخوانه على ذلك لسنوات، إلى أن مكن الله للمقاومة من أسر الجندي شاليط والاحتفاظ به 5 سنوات، خاض خلالها القسام وفي القلب منه أبو محمد وإخوانه القادة معاركَ عسكريةً وأمنيةً وتفاوضيةً انتهت بتحقُقِ ما كان يوماً مجرد حلم.
قضى أبو محمد وإخوانه من مفاوضي المقاومة مئات الساعات من التفاوض غير المباشر لانتزاع تلك الصفقة التاريخية المشرفة التي تنسم فيها 1050 فلسطينياً وعربياً عبق الحرية، فكسروا قيد السجان الصهيوني ومرغوا أنف قادته بالتراب.
لتتحقق أمنية أبو محمد بصفقة وفاء الأحرار عام 2011م ويقول قولَته الشهيرة: "أمد الله عز وجل في عمرنا 5 سنوات حتى ننجز صفقة وفاء الأحرار".
محاولات الاغتيال
ولما تسبب به من أذى ورعبٍ للمحتل، تعرض القائد في حياته الجهادية للعديد من محاولات الاغتيال والاختطاف الفاشلة، فقد فشلت محاولة اختطافه من قوة صهيونية عام 2010م شرق حي الزيتون بغزة، كما كتب الله له النجاة من عدة محاولات اغتيال كانت إحداها خلال اجتياح حي الزيتون، حينما استهدفت الطائرات المكان الذي تواجد فيه برفقة الشهيد القائد وائل نصار.
وفي عام 2004م استهدف الاحتلال جلسةً عائلية تواجد فيها القائد برفقة أهله وأقاربه، ليستشهد نجله وعددٌ من أقاربه فيما نجا هو من محاولة الاغتيال، وخلال معركة الفرقان كان أبو محمد برفقة أحد إخوانه في منزل بالمحافظة الوسطى، وقد تم قصف ذلك المنزل وتدميره بالكامل، ولكن الله نجّا القائد الجعبري الذي غادر المنزل قبل القصف بدقائق معدودة.
رحيل القائد
كانت آخر كلمات القائد الجعبري: "كل ما طلبته من رب العالمين أعطاني إياه بفضل الله عز وجل، طلبت منه أن أكون سبباً في الإفراج عن الأسرى والحمد الله رأيتهم، وأن أقدم العون للناس وقد أكرمني بذلك، والآن أكرمني بالحج والعمرة والحمد الله".
ظهر الأربعاء الموافق 14/11/2012م، استهدفت طائرةٌ صهيونية سيارة القائد مع مرافقه محمد الهمص "أبو حامد" في منطقة السامر بمدينة غزة، لتفيض الروح إلى بارئها ويختم مشوار قائدٍ لطالما أذاق العدو الويلات، وبعد رحيله بساعاتٍ زلزلت صواريخ القسام "تل أبيب" لأول مرة في تاريخ الصراع، ليكون استشهاده تاريخاً فارقاً وبدايةً لمشوارِ تحرير فلسطين من بحرها لنهرها بإذن الله.