قائمة الموقع

بلال رواجبة.. طلب "نورًا ممتدًّا" أطفأته "خفافيش حوارة"

2020-11-10T11:57:00+02:00

يشابه قمرًا أطل في ليلةٍ معتمةٍ؛ يشعُّ نور وجهه في بقعة الظلام تلك، في الصورة .. عينان تنظران إلى الحياة تلمع منهما نظرة مترعة بالأمل، ووجه تتوهج منه ابتسامة مشرقة وضحكة بيضاء صافية مثل سماء في يوم معتدل، يتغنى للحياة ويرجو التوفيق "اللهم نورًا ممتدًا منك يضيء طريقي وأيامي".

ما إن وصل عمله قرب الثامنة والنصف صباحا يتصفح عبد الجواد رواجبة حسابه على "فيسبوك"، وإذا بصورة شقيقه بلال تطل عليه مثل قمر، كانت الصورة مميزة على غير العادة، تختلف عن كل صوره ، وكأنَّ للراحلين طقوسا يخبروننا فيها أنهم استثنائيون حتى عند الغياب والفراق، باغته خوف لا إرادي "معقول صاير لأخوي اشي؟" قبل أن يشده نص الدعاء المكتوب، ويدعو له بالتوفيق.

في لحظة تأمل بصورة شقيقه، تبعتها ابتسامة عفوية بينه وبين نفسه خرجت منه على أناقة شقيقه، رجع بشريط يومه للحظات التي مرت قبل ساعة من مغادرته المنزل، وقتها "نزل عند أمي، وأفطر معها وساعدها بترتيب البيت كونه آخر العنقود، وألقيت عليه تحية الصباح وغادرت قبله للعمل كوني أعمل مهندسًا" .. هذه كل التفاصيل التي يراجعها شقيقه مع نفسه.

قبل أن يصدر هاتفه المحمول رنينًا دوى صداه في قلبه، وكان المتصل ابن خالته: "شوف بلال مداوم ولا مش مداوم؟" يعلل المتصل: "رنيت عليه ما ردش"، ليتصل شقيقه بزوجة أخيه، تتقطع الحروف في صوته فالخوف يملأ قلبه رغمًا عنه: "وين بلال .. داوم؟" تتسابق أسئلته في العثور على إجابة فورية سريعة، كان ردها أشبه ببركان أوقد نيران قلقه :"طلع على الدوام صحيح .. بس كل العالم رنت علي؛ في شي صاير؟" – "لا لا تخافيش ".

"أعدت الاتصال بابن خالتي، فأخبرني أن هناك شكوكًا أن سيارة بلال تقف على حاجز "حوارة"، فاتصلت بصحفي يسكن هناك، وأعطيته مواصفاتها، بالفعل كان قد شاهد الحدث وأنه رأى جنود الاحتلال يطلقون النار بكثافة على أخي بلال، وأخبرني باسم صاحب السيارة (سلمى حسان) وهي زوجة أخي فعلمت أنه استشهد" .. عبر خط الهاتف يعيد شقيق الشهيد ترتيب أحداث ذلك اليوم "المأساوي"، عبر الخط ذاته كانت صحيفة "فلسطين" تنصت إلى صوت "القهر" وتنهيدات الألم والوجع والحسرة على الفراق، وكومة المشاعر التي تملأ صوته.

ما لبث أن أنهى المكالمة مع الصحفي حتى تلقى اتصالاً من رقم غريب ..

- مين معي؟ - "ضابط المخابرات" – "وين أخوي؟" .. -"اهدى شوي" – "بدي أعرف وين أخوي" – "أخوك بالعمليات وضعه غير مستقر" – "طيب شو بدك" – "تعال على حاجز حوارة انت وأبوك؛ بدي أسألكم عن بلال".

إعدام بدم بارد

كلامه أعاد خيط أمل رفيعا إلى شقيق بلال بأن "رفيق دربه" لا زال على قيد الحياة "هم كانوا يريدون جمع معلومات عنه، وتبرير جريمتهم التي اتضحت أنها إعدام "بدم بارد"، حتى أنهم بدؤوا بجمع المعلومات عنه، يسألون الجيران وأصدقاءه عن وضعه الاجتماعي والمادي وعلاقته بزوجته (...) يريدون العثور على ثغرة في حياته لتبرير الجريمة".

لم يربط "الدم" فقط علاقة بلال وشقيقه، فقد كانت الترابط بينهما أكبر من ذلك "كنت مقربا منه كثيرا، أصدقاؤنا مشتركون، نخرج للسهر مع بعضنا مثل توأمين، أذكر أنه قبل يومين من استشهاده جدد اشتراكه في نادي رياضة اللياقة البدنية، وفي الليلة ذاتها صفف شعره في صالون الحلاقة، في تلك الليلة سهرنا مع أصدقائنا وكان سعيدا للغاية، يمزح، يضحك، تخرج منه ابتسامات عفوية كعادته وقبلها بأيام شارك صديقنا الاحتفاء بفرحه".

صديق "الشدائد" ورفيق "الشتوية"

"الصديق وقت الضيق" والأخ "يشد الأزر" فكيف إذا كان الأخُ صديقًا، في الأمر موقف بين الشقيقين لا ينساه الراوي "قبل خمس سنوات، كنت في السعودية ولم يكن وضع العمل جيدا، وفي الفترة الأخيرة لم أتقاضَ راتبي لعدة شهور، فتراكمت الرواتب على الشركة السعودية، ولم أملك مالاً في تلك الفترة، شعرت أني يائسٌ ومتعب، فما كان من بلال إلا أن هون علي في أحد اتصالاته: "أنا يا أخي مدخر بعض المال، ويمكننا تقاسمه"، وعد واترك السعودية، وبالفعل عدت".

"ذكريات الشتوية كل سنة يوميا كنا نولع منقل نار على باب الدار" .. أيام أصبحت في طيف الذاكرة، في صوته مرارة ممزوجة بضحكة تتشابه مع جمال أجواء الشتاء الباردة سرعان ما تلاشت من فرط حزنه على رحيل شقيقه "آاااه" تنهيدة مقهورة ثم سلك الكلام طريقه "كنت أتسابق مع أخي بلال لإشعال موقد النار، ونتعارك من سيحمل العصا وقطعة أخشاب "لنبش" النار.

"من سيعيد تلك الأيام؟ ومن سيحمل موقد النار من اليد الأخرى ونسير به إلى داخل المنزل حينما تخفت؟ أو من سيزين لمة العائلة وهي تفتقد آخر عناقيدها؟ تتجمع العائلة بحلقة دائرة نغلي الشاي "ونكحمش" الخبز والجبنة ونتناول عشاء برائحة الفحم". من الصعب عليه تخيل أن المشهد قد يتكرر دونه، "فلا مجال لإعادة تلك الطقوس".

تزوج بلال في أواخر عام 2019م، ورزق بمولودته الأولى "جوان" قبل ثلاثة أشهر في السادس من آب/ أغسطس، في الصورة يحمل الرضيعة بين ذراعيه، حوله بالونات تتوشح اللون الوردي، يشبه الوشاح الذي يكسو باب الغرفة في وسطه رصع اسم جوان باللون الذهبي، وشارك أصدقاءه على الفيس بوك فرحته بالدعاء لابنته "اللهم أنبتها نباتاً حسناً، واجعلها قرة عين لنا واحفظها".

رحل بلال شهيدا على ثرى نابلس، وستكبر تلك الطفلة التي لم تهنأ بوالدها وحيدة بلا أشقاء، حياة فرضت عليها، ستعرف أن رصاص "خفافيش حوارة" أظلمت حياتها، وحرمتها طفولتها، فقط ستجد صورة أو عدة صورة لها معه، يحملها بين ذراعيه، أو تلك الصورة المعلقة على جدران المنزل مكتوبا عليها "الشهيد بلال رواجبة".

 

 

اخبار ذات صلة