أشرقت عينا المزارع عصام فقها (54 عامًا) من قرية "عين البيضا" في الأغوار الشمالية، باكرًا، يستعد لجني محصول زراعي وفير، ليحصد معها نتاج تعبٍ وعملٍ أمضاه تحت لهيب حرارة الأغوار الحارقة، التي ما زالت آثار "لسعاتها" جاثمة على ملامح وجهه الداكن.
دقائق من المسير، يسابق فيها الوقت وتدق أجراس الفرح بداخله وكأنه عرس سيعيشه بين حقوله الزراعية في أرضه البالغة مساحتها 400 دونم، لكنّ ذلك أفسدته إحدى أقدم مستوطنات الاحتلال المسماة "ميخولا"، التي تجثم بمحاذاتها.
ما إن وصل أرضه حتى تلفّت عصام بنظرات ترافقها الصدمة، ينظر والغضب يملأ اتساع عينيه؛ يمسك أوراق أشجار الخضراوات والفواكه والحمضيات يتحسس ما أصابها، وكل شيء أصبح تالفًا وكأن عاصفة ضربت الأرض في "ليلة وضحاها" لتجعلها خرابًا وأثرًا "بعد عين" بفعل أيدي المستوطنين الذين رشوا مبيدات الأعشاب وحرقوا أرضه.
على نقطة الالتقاء بين الأراضي المحتلة سنة 1967م وتلك المحتلة سنة 1948م في منطقة بيسان بالأغوار الشمالية، وعلى تماس مباشر مع الحدود الأردنية ومصب نهر الأردن تقع عين البيضا (حارسة الأغوار الشمالية).
وكغيرها من مناطق الأغوار يستهدف ما يعرف بـ"مخطط الضم الإسرائيلي" عين البيضا؛ فهي الموقع الذي لا يمكن للاحتلال أن يفرط فيه نظرًا لحساسيته الأمنية والاقتصادية، ويحاول من طريقه تنفيذ نكبة جديدة لكن بأسلوب وأدوات مختلفين.
تدمير بالكامل
لا يزال المشهد الذي حدث قبل سنوات في أرض المزارع عصام يدق ناقوس الخطر حتى في أحلامه، يخشى أن يتكرر الأمر مرة أخرى، على الطرف الآخر من سماعة الهاتف يستذكر المشهد وهو يروي لصحيفة "فلسطين" فصول المعاناة: "تلك المبيدات دمرت أرضي بالكامل، كان الأمر صعبا وأنت ترى أرضك التي ورثتها من والدك وأجدادك تدمر أمام ناظريك".
مأساة يومية يعيشها هذا المزارع، فعين البيضا الغنية بالآبار والينابيع تضطر إلى شراء المياه من شركة "ميكروت الإسرائيلية"، وهي تعيش على وقع "خطة الضم"، التي يرى فقها بوادرها أمام ناظريه: "وأنت تسير في أرضك ترى لافتات يضعها المستوطنون تحذرك الاقتراب من الأراضي وقد وضعوا عليها تصنيف: (أراضي محميات طبيعية)، فضلًا عن تسييج الأرض الذي بدأنا نلاحظه".
"مزرعتي محاذية لمستوطنة "ميخولا"، أزرع فيها الخضراوات لكون درجة الحرارة في الأغوار عالية، وفي الصيف لا يوجد إنتاج زراعي لأننا نعتمد على الزراعة البعلية وموسم الأمطار بسبب شح المياه، ونزرع العنب، والحمضيات، وأدخلنا الجوافة" أمام هذا الواقع أحاطت الأخطار بعصام وغيره من المزارعين الذين صادر الاحتلال جراراتهم الزراعية.
واجهت القرية خطة تدمير وتهجير ممنهجة منذ 1967م؛ فهي أكثر مناطق الأغوار من حيث موجات التهجير التي طالت سكانها الأصليين الفلسطينيين؛ إذ هجر الاحتلال على مراحل قسرًا سكان الخرب التابعة والمحيطة بها، ومنها خربة الحمة والدير والساكوت، التي كانت تعج بالحياة، وأقام الاحتلال مستوطنة ميخولا على أراضيها.
خربة جباريش هي آخر خربة هجّرها الاحتلال في المنطقة، وقصفت سنة 1990م، ولم يبقَ بها أحد، وهي منطقة أثرية تابعة لعين البيضا.
فارس فقها حقوقي يعمل باحثًا قانونيًّا لمؤسسة "الحق"، يذكر بعض الانتهاكات التي ترتكب بحق القرية، مبينًا أن أراضيها من الداخل مصنفة "ب"، أما الأراضي من الخارج فتخضع للتصنيف "ج" أي تحت سيطرة الاحتلال الأمنية والإدارية حسب اتفاق "أوسلو".
يقول فقها لصحيفة "فلسطين": "نتحدث عن عدم قدرة الفلسطيني على استغلال أرضه، وعدم الحرية في التنقل خاصة مع بداية موسم الشتاء، فيعتمد المزارعون على الزراعية البعلية بمناطق لا تصلها مياه الري، مثل القمح، والشعير".
ومن هنا تبدأ المعاناة، تبعًا لكلامه، فالاحتلال لا يسمح للفلسطينيين بزراعة أرضهم بحرية، ويعتقلهم، ويصادر المركبات الزراعية والجرارات، وأحيانًا ينشئ بؤرًا استيطانية على قمم الجبال.
"اكتفاء ذاتي لم يستمر"
يربط الحقوقي بين الماضي والحاضر، وكيف تغيرت معالم القرية قائلًا: "سابقًا كانت تعيش اكتفاءً ذاتيًّا من المياه، لكن الاحتلال لم يرُقه ذلك"، مبينًا أن الاحتلال اضطر الأهالي إلى إيقاف استخراج المياه من الأرض والينابيع، مقابل الحصول على حصة من شركة "ميكروت" الإسرائيلية، بكميات محدودة حتى يبقى يسيطر على الواقع الزراعي.
بسبب شح المياه، بدت الزراعة صعبة، ووسط هذا كله تعيش القرى على وقع عملية تهجير صامتة، يضيف فقها: "نعيش الآن حياة مجهولة وضمًّا صامتًا، وهو عبارة عن السياسات المتبعة من الاحتلال للسيطرة على الأرض".
رئيس المجلس القروي لـ"عين البيضا" مصطفى فقها يروي لصحيفة "فلسطين" أصل الصراع في القرية قائلًا: "إن الاحتلال بعد أسبوع من احتلال الضفة الغربية سنة 1967م بدأ رسم مخططات زمنية تهدف إلى مصادرة الأراضي وتهجير الفلسطينيين والسيطرة على مصادر المياه، فلديه مخططات جاهزة للتنفيذ تستند إلى القوة والبطش والإرهاب".
يضيف: "منذ اللحظة الأولى صادر الاحتلال المياه، وعين ضابطًا للمنطقة ومنحه كل الصلاحيات للترخيص والحفر، وفي 1972م أقام ثلاث نقاط وآبارًا تصل للحوض الشرقي بقرية بردلة وتستخرج في الساعة 1400 متر مكعب من المياه، وأصبح الناس في عين البيضا دون (نقطة ميَّة)".
في القرية نحو 15 عينًا لكن سياسة الاحتلال أدت إلى جفافها، وفقًا لإفادة فقها.
وتبلغ المساحة الإجمالية لقرية عين البيضا أكثر من 81 ألف دونم، منها 70 ألف دونم أراضٍ جبلية بعلية، وهناك 11 ألف دونم أراضٍ مستغلة زراعيّاً، و668 دونمًا عبارة عن المخطط الهيكلي للقرية، ويبلغ عدد سكانها قرابة 1800 نسمة، (60%) منهم لاجئون موزعون على خرب الساكوت، والحمة والدير، ومن تبقى من سكانٍ فهم من عائلتي ضراغمة وفقها، وفقًا لحديث رئيس المجلس.
لم يجفف الاحتلال مياه عيون القرية بطمرها، وفقًا لإفادة فقها، بل لجأ إلى حفر بئر في قرية بردلة المجاورة لها، وأدى هذه الاستنزاف إلى تجفيف عيون القرية، ويحاول الفلسطينيون إعادة تأهيل وترميم الينابيع والعمل فيها لتوفير كميات محدودة من المياه.
ويعتقد فقها أن تسمية القرية "عين البيضا" تعود إلى وجود ينبوع مياه على شكل عين في وسط القرية، رماله شديدة البياض، مشيرًا إلى أن خمس مستوطنات إسرائيلية تحاصر القرية حاليًّا.