بداية، لعلنا في غير حاجة إلى التدليل على الفرق الشاسع بين آثار اثنين من ردود الأفعال على الهجمة الفرنسية الأخيرة على الإسلام عمومًا، وعلى مقام النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) خصوصًا، والمقصود هنا الرد بالذبح وقطع الرؤوس، والرد بالمقاطعة الشاملة للمنتجات الفرنسية.
ذلك أن عمليات القتل التي نُفّذت داخل فرنسا وبعض الدول الأوروبية جاءت هديةً داعمة للدعاية الفرنسية النكراء في أوساط الأوروبيين ضد الإسلام، وبرزت محاولة قذرة لاستغلالها لتصعيد الهجمة في شقيها الكلامي والفعلي على الإسلام والمؤسسات والمساجد الإسلامية، في حين كانت المقاطعة الاقتصادية سلاحًا ماضيًا أرهق وأقلق السلطات الفرنسية، وساهم في ردع غيرها من الحكومات والمستويات الرسمية الأوروبية، فهؤلاء عبّاد للمال، وهو مقدسهم الأهم ومصلحتهم الأجدر بالرعاية، ما يعني أن تصاعد موجة المقاطعة في العالمين العربي والإسلامي كفيل بردعهم عن التمادي في هجمتهم الشرسة، ثم بالتراجع والاعتذار، والكفّ عن استفزاز مشاعر المسلمين.
من جهة أخرى، رافق أحداث العنف في فرنسا وبعض المدن الأوروبية تصاعُد موجة اعتذارية عالية في أوساط المسلمين، حتى باتت هناك خشية من أن يؤثر هذا التفاعل على الحدث الأساسي، وهو استنكار ما فعلته فرنسا وما زالت تصرّ عليه، وبدا أن كل مسلم على وجه الأرض مطالب بتقديم موشح استنكار لما جرى من أحداث، رغم محدوديتها قياسًا بالهزة العنيفة التي أحدثتها فرنسا بتصريحات ساستها وإجراءاتها التي بدت موجهة ضد الإسلام لا التطرف كما زعمت.
ومع كون أحداث العنف الأخيرة ضد بعض الغربيين مرفوضة ومدانة، خاصة تلك التي مست الأبرياء، وكانت تنفيسًا أهوج للغضب، لا بد من الإشارة إلى ضرورة أن يفطن المسلم في كل مكان أنه غير مطالب بأن يظل في خانة الدفاع عن النفس والاعتذار عما لم يفعله، فالإسلام واضح، ورسالته السامية في قيمها وتعاليمها أعظم من أن تُلجئ أيًّا منّا إلى استشعار الخجل وتأليف المقامات في إدانة (الإرهاب) دونما حاجة لذلك، صحيح أن توضيح وشرح تعاليم الإسلام مطلوب دائمًا، ولكن دون رهبة وشعور بالدونية أمام الغربي الذي قامت حضاراته كلها على القتل والإرهاب والظلم.
وفي كل الأحوال، سواء أكان خطاب إدانة العنف رسميًّا أم كان شعبيًّا، عليه أن يدين أولًا الفعل الأساسي الذي أدى إليه، أي التهجم على الإسلام، فليس كل المسلمين على درجة واحدة من الفهم والتفهم والانضباط، وقد تؤدي غضبة شخص عادي، قد لا يكون متدينًا أصلًا، إلى فعل عنيف، وهذا قد يجرّ غيره، وهكذا، إنما يبقى أساس ذلك كله الفعل المنكر الذي تسبب بكل هذا، وهذا الفعل يجب أن تظل إدانته في الصدارة، وألا تُمنح حكومات فرنسا وسواها فرصة لحرف الأنظار عن الإشكالية الأساسية، وجعلها متركزة في ردود الأفعال.
يميل كثيرون إلى استعارة عبارات الإدانة الجاهزة والموضوعة على رفوف التداول الإعلامي، كإعلان رفض القتل باسم الدين، وتأكيد نبذ الإرهاب والتطرف، وقد يتطور الأمر إلى تحميل حركات الإسلام السياسي المسؤولية عن أحداث القتل نتيجة "للتأليب" على فرنسا، كما رأى بعض المتخاصمين مع ذواتهم وهويتهم من العرب والمسلمين، لكن المقام لا يتسع اليوم لترف هذه المساجلات، فالموقف العربي والإسلامي الشعبي، الموحد والمشرّف، من الهجمة الفرنسية على الإسلام ينبغي أن يُتمسك به ويُبنى عليه، مع التفكير المستمر في آليات تطويره، وأن تأخذ التفاعلات مع الحدث الأساسي مداها، خاصة على الصعيد العملي المتمثل في المقاطعة الاقتصادية والتظاهرات الميدانية، وألا يطغى عليها غيرها من أحداث فرعية من متعلقات القضية، لأن تفاعلات الموقف الشعبي تلك ستصبح بعد حين سلاحًا شعبيًّا رادعًا للتطاول الغربي على مقدساتنا في غير مكان، ونحن أحوج ما نكون لفعل شعبي مؤثر ومغيّر، خاصة مع هذا الخرس الذي عمّ المواقف الرسمية للأنظمة العربية مما جرى.
وكم سيبدو مهمًّا أن تدرك فرنسا وغيرها أن الفعل الشعبي الموحد يمكن أن يضغط عليها ويهدد مصالحها، حتى لو اصطفت إلى جانبها كل الحكومات العربية والإسلامية، فما يتفاعل شعبيًّا وعلى أرض الواقع، بوضوح وقوة، دون مواربة أو عدوان على الأبرياء، سيغدو فيما بعد سيفًا مشرعًا في وجه محاربي الإسلام، وقد يكون أمضى من السيوف التي تجزّ الرؤوس، على غير بصيرة أو هدى.