تمارس الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة دورًا شاذًّا وخطيرًا في مواجهة النشطاء والمعارضين وأصحاب الرأي، وتتركز مهماتها على الموالين لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، أو من تعتقد أنهم يتبنون سياسات قريبة ويشكلون خطرًا عليها، في إطار الخطة التي أعدت في الأشهر الأخيرة ضمن التفاهمات التي أجريت بين قوى الأمن الفلسطيني والأجهزة الأمنية الإسرائيلية.
الخطة جاءت بعد تحذيرات إسرائيلية لقيادة السلطة من أن مكانة حركة فتح تتراجع، نتيجة الخلافات الحاصلة في الضفة، وعدم قدرة الحركة على تبني مشروع وطني يعيد ثقة الجماهير بها، وبذلك إن الساحة ستكون مهيأة لاستقطاب وتأثير حركتي حماس والجهاد الإسلامي اللتين تبذلان بحسب التقديرات الإسرائيلية جهدًا غير عادي لاستعادة مكانتهما في الضفة الفلسطينية، في سباق متواصل لتغيير المعادلة وفرض مواجهة مفتوحة مع الاحتلال من طريق عشرات بل مئات العناصر الموالين.
لذلك حرصت الأجهزة الأمنية أخيرًا التي يديرها ضباط متنفذون في "حركة فتح" على بذل كل جهد ممكن لتصفية كل المعارضين، ووقف أي أنشطة من شأنها تهيئة الضفة لعودة العمل الفدائي المسلح، أو أي مقاومة شعبية يمكن أن تفضي إلى انتفاضة عارمة ضد الاحتلال.
الخطة شملت مسار عمل يتطلب تكثيف الجهد الاستخباري، وجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات، وتوسعة رقعة التحريات لتغطي كل المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية في الضفة، وتكثيف مهام العمليات بحملات منظمة وإجراء مداهمات مفاجئة واعتقال العشرات ممن ترد عليهم معلومات، ومصادرة الأجهزة والمعدات وضبط أي مبالغ مالية يحصل عليها في أثناء المهمات، وإبقاء خط الاتصال مفتوحًا لتبادل المعلومات بخصوص هذه الخطة لضمان تطهير الضفة من هؤلاء العناصر وإبقاء الساحة نظيفة من "مسببات الإزعاج" كما يعتقدون.
إذ ضمنت هذه الخطة خضوع العناصر المستهدفة أو المطلوبين لاعتقال و"تحقيق مزدوج"، لكون بعض قيادات الأجهزة تجد صعوبة في تسليم المعتقلين للاحتلال حال انتهاء التحقيق معهم، لما لذلك من عواقب خطيرة قد ترفع من مستوى النقمة عليها، وتظهرها بطابع غير وطني وتورطها مستقبلًا في المساءلة أو المحاسبة.
لذلك نفذت إستراتيجية مختلفة تمكن السلطة من "الإفلات بجلدها" وستر العار، بإبلاغ الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بنية الإفراج عن الأشخاص وتزويدهم بكل التفاصيل عن هذا الأمر، لتتمكن قوات الاحتلال من اقتحام المنطقة خلال ساعات أو بعد مرور أيام لاعتقالهم واستكمال التحقيقات وتوجيه التهم ذاتها التي لفقتها لهم أجهزة الأمن الفلسطيني.
ولو توقفنا قليلًا لنطلع على أحد أسماء المعتقلين في مدينة نابلس الصحفي عبد الرحمن ظاهر الذي داهمت قوات الاحتلال الإسرائيلي منزله فجر الثلاثاء؛ لوجدناه الشخص ذاته الذي اعتقلته أجهزة السلطة بتهمة الذم الواقع على السلطة، وقد أمضى ما يقارب 36 يومًا ليفرج عنه بكفالة الشهر الماضي.
الصحفي ظاهر وغيره العشرات سُلموا بهذه الطريقة في إطار التعاون والتنسيق الأمني، لكن اللافت أننا نشهد حملات مسعورة وغير معهودة نتيجة الخوف الذي ينتاب قيادة السلطة، وهذه الأجهزة التي تخشى فقدان مكانتها حال وجدت المقاومة موطئ قدم لإشعال الضفة، وتتحسب لاستحقاقات سياسية قادمة قد تغير خريطة القيادات الوطنية، وتعيد بناء المؤسسات بناء يجعل فريق المصالح في مهب الريح.
ويبقى ما تقوم به أجهزة السلطة عملًا شائنًا لا يمكن قبوله وطنيًّا بل دورًا مقصودًا للتخريب وتفجير الأوضاع من جديد لعودة السجالات والخلافات بوتيرة أشد، الأمر الذي يؤكد أن هناك أطرافًا مختلفة تسعى إلى إفشال الحوار وإبقاء الانقسام الفلسطيني، وفي الوقت ذاته إن هذه الصورة تعكس الحالة التي وصلت إليها السلطة في رام الله وهي غير قادرة على كبح جماح قادة الأمن، الذين يتلقون توجيهات إسرائيلية من شأنها أن تؤسس لتعميق الخلاف الفلسطيني الفلسطيني.