كـ"خلية نحل" تتوزع الفتيات، تعرف كلٌّ منهن دورها ومهمتها، يحملن عبئًا إضافيًّا من كومة أعباء تثقل ظهر والدهن، كبرن وكبرت عليهن المسؤوليات وهن في "عز طفولتهن".
"رؤى، مريم، مرام" أعطى الأب إشارة بدء العمل، فقد وردته مهمة عاجلة للتو، فتركن الرسوم المتحركة التي كنّ يتجمعن قبالتها على شاشة التلفاز، ليندمجن في "عالم العجن والخبز" الذي يساندنه فيه.
وجد داود البوجي (44 عامًا) بناته الست -وهن: مريم (14 عامًا)، ورؤى (13 عامًا)، ومرام (12 عامًا)، ورؤيا (10 أعوام)، ومروة (6 أعوام)، وأمل (عامان)- طوق نجاة من الظروف الصعبة التي فرضت عليه، إذ تشاركت العائلة في مشروع منزلي.
بأثواب تراثية يتخالط فيها الأسود والأحمر يتشابهن إلى حد يكاد يصعب عنده التمييز بينهن، توزعت كل واحدة على مكانها داخل المخبز المنزلي.
أخرجت رؤى قطعًا من العجين المعد مسبقًا، ووضعته بين يدي والدها الذي فردها وبدأ وضع المكونات داخلها بعد أن نزع ظرفًا شفافًا كان يحفظه، في حين تقف مريم أمام باب الفرن المفتوح تحمل بيدها مقبضًا لإدخال الخبز للفرن، تقف كالحارسة حتى لا تحترق الوجبة.
هنا، تحيط مرام ومروة ورؤيا والدهن استعدادًا للتدخل في أي مهمة يطلبها منهن ونقل الطلب من والدهن إلى مريم، التي أدخلت القطعة الأولى من عجين "التميس" داخل الفرن، وأتبعتها الثانية، والثالثة، وأكملت عنها رؤى حتى انتهت من تجهيز القطعة السادسة، وأنجزن المهمة في أقل من خمس دقائق، عملت فيها البنات أشبه بخلية نحل سريعة الحركة.
في بيتهن الواقع بمخيم "الشاطئ" غرب غزة، يبدو المشهد داخل "مخبز البنات الـستة" كـ"مخبز حقيقي مصغر"، وتجذب النظر اللوحات المصممة بألوان يتحالف فيها الأزرق والوردي، مكتوبًا عليها (6 Girls) مع الأحرف الأولى لأسماء البنات الستة.
"مخبز متنقل"
يرتدي مريول العمل ذي اللون البنفسجي، يقف قبالة الغاز يعد كأس القهوة، معها يريد احتساء جرعة من راحة، حامدًا الله على رزقه لهذا اليوم، وبينما هو على الهيئة ذاتها عاد لفكرة ولادة المشروع في حديث مع صحيفة "فلسطين": "كنت أعمل على "الديلفري" (توصيل طلبيات) قبل أربع سنوات، فوصل بي الحال إلى أني لم أعد أستطيع مواصلة العمل، بسبب الغضاريف التي عانيتها، ولم أجد فرصة عمل (...) ولكوننا نحب إعداد الوجبات السريعة خطرت ببالنا الفكرة".
لا يزال متوقفًا عند البدايات: "بدأ مشروعنا في نيسان (إبريل) 2020م، وتطور شيئًا فشيئًا، وبعد شهرين صممنا مخبزًا متنقلًا، وهو عبارة عن صندوق بارتفاع متر وعمق 70 سم، يحمل عليه فرنًا صغيرًا وحافظة للأكل".
ترسم الابتسامة طريقها في ملامحه وصوته: "حظينا بجمهور رائع جدًّا، وصرت أتنقل بالدراجة النارية إلى مرفأ الصيادين، ودير البلح، وإذا غبت عن الأماكن التي اعتدت الوجود فيها يسألون عني، لكن مع جائحة كورونا تأثرت كحال باقي الناس، إلى أن خففت الإجراءات المفروضة على الحركة، وعدت للعمل في أماكن يتجمع فيها السائقون، لكن لم يكن الأمر مجديًا".
أكثر شيء متعب في هذا العمل هو رق العجين، يشير نحو عجانة صغيرة معلقًا: "هاي بتعطيك شغل ممتاز"، ثم يشير بيده نحو عجانة حديدية كبيرة أخرجها من أسفل الطاولة: "هاي بتعطيك شغل ممتاز، ولكن بدها كمية كبيرة، أهدانا إياها شخص وصار الإنتاج كويس".
يرحل بحديثه إلى سبب قدومه لغزة قادمًا من السعودية قبل أعوام، قائلًا: "كنت أعمل بالسياحة والسفر، تحديدًا مجال الفنادق، وسافرت إلى أكثر من 36 دولة، أحب إعداد الطعام، عام 2013م جئت لزيارة أهلي بغزة، ولكن أغلق معبر رفح، وانتهت تأشيرة السفر ولم أستطع العودة، فقررت البقاء والبحث عن عمل، ولأني لا أملك مهنة أو حرفة ولا يوجد شغل سياحة بغزة، وجدت إعداد الوجبات أفضل شيء".
حضرت مريم ورؤى حديثنا، في الأثناء يشرح علاقته ببناته: "أعاملهن كأصدقاء وليس أبًا فقط، أعطيهن حريتهن الشخصية، وفي هذا المشروع زاد الترابط بيننا".
مريم تدخل في أجواء الحديث بخجل، تنيب عن والدها: "مهمتي رق العجين، وأحيانًا على الفرن، يوميًّا نشجع أنفسنا حين وصل الكهرباء، وقد نجهز العجين في يوم واحد".
تعلو ملامحها ابتسامة مشرقة: "شعور حلو كتير إنه نهيئ حالنا للشغل ونطوره".
بهدوء تتسلل رؤى للحوار، تعلو خدها حمرة مشرقة وابتسامة عريضة، معبرة عن سعادتها: "بنشتغل زي خلية النحل، وأنا مبسوطة أنه فتحنا المشروع هدا، وحلمنا إنه يكبر ويتوسع، عشان الناس يعرفونا (...) فخورة بنفسي إني بساعد بابا".