قائمة الموقع

هناء.. "محاربة" تسلحت بـ"الياسمين" لتثبت أن "حياتها لم تنتهِ"

2020-10-22T11:52:00+03:00
652A9019.JPG
فلسطين أون لاين

تجمد القلم في يد الطبيب وكأن حبره قد جف، وهو يدون لها تاريخ صورة الأشعة؛ ما إن حررت شفتاها الراجفتان: "دكتور أنا عارفة حالي مصابة بكتلة سرطانية"، ليرمقها بنظرة استغراب، متعجبًا: "وكيف عرفتِ؟!"، الجواب لم يكن صعبًا عليها فالمرض أرسل علاماته: "ما الكتلة إلها شهر بتكبر يا دكتور"، - "لا عليك؛ خلينا ننتظر النتيجة"، – "كم المدة؟"، – "تخافيش أسبوعين، إن شاء الله"، كلها أصوات حوارات بين هناء شحادة التي أوقدت شموع خوفها، وطبيب يرسل نفحات أمل باردة على قلبها.

مر أسبوعان؛ أشبه بعامين، تجلت فيهما كل معاني الانتظار، حتى جاءها الخبر في عيون زوجها، الذي علم نتيجة الفحص قبلها، لم تنتظر كلماته بل رسمت عيونه التي لم ترها حزينة من قبل هكذا الإجابة، "صحيح، أنا مصابة بالسرطان؟"، أومأ برأسه للأسفل بصوت خافت: "صحيح".

أظلمت الدنيا في داخلها وتلاشت كل ألوان الفرح، تكبلها أغلال الرهبة والخوف، تتهاوى في بحر الحزن، وترتجف أركانها، وجدت ابنها الشاب لتحتضنه وتترك على  كتفه دموعًا بللته: "يمّا، إنت قوية، بنتعلم القوة منك"، ولم يدر أن أمه في هذه اللحظة خائرة العزيمة، يقيدها اليأس، مثل جندي أوشك أن يرفع راية الاستسلام قبل أن تبدأ المعركة، ونكست رايات الانكسار، وكأنَّ عينها تحولت إلى شمعة تسكب دموعها الدافئة.

لكن، حينما بدأت المواجهة مع المرض، خرجت مثل العنقاء تنفض رماد الخوف والاستسلام عن نفسها، ورفعت راية التحدي.

 سافرت و"طافت وجالت" ورحلت لكل مكان فيه دواء، تقاتل ببسالة، حتى قررت أن تثبت أن هذه الخلايا السرطانية لم تكن نهاية الدنيا بل بعثت فيها "حياة جديدة"، تطوعت صاحبتنا في مؤسسة مختصة برعاية مرضى سرطان الثدي، وأنشأت مطبخًا منزليًّا أسمته "مأكولات الياسمين"، ليكون منارتها في ظلام اليأس الحالك بداخلها، فأصبحت اليد التي تتألم من المرض تعمل وتواصل العمل لأجل بث روح التحدي في نفوس كل "أصحاب قلب ضعيف".

في صالة استقبال الضيوف في منزلها بحي الشيخ رضوان بمدينة غزة، استقبلتنا الستينية هناء شحادة ترتدي ثوبًا تراثيًّا مطرزًا تكسر لونه الأسود خيوط حمراء برسومات زاهية تعكس أصالة الشعب الفلسطيني، تعلو ملامحها إشراقة مرصعة بالأمل وكأنها غير مصابة بالسرطان، قبل أن تكتشف أنها كانت ابتسامة في عين تبرق بدموع تسير متخفية على جفونها.

تطير بها الذكريات إلى الشهر المحمل بالألم: "ما زلت أذكر اليوم جيدًا، في 19 حزيران (يونيو) 2009م، لا أنسى ذلك اليوم حينما علمت إصابتي بسرطان الثدي (...) صعب أن تزيل المرأة جزءًا من أنوثتها، قاسية تلك اللحظة".

وليست تلك كانت أصعب المراحل: "في الجرعة الأولى لجلسة الكيماوي، تساقط شعر الرأس والحواجب ورموش العين، كنت أرى أنوثتي تتساقط مني ويتهاوى معها قلبي، أشعر بألم شديد بعد كل جلسة، حتى لدي بنت متزوجة في التشيك جاءت إلى غزة حينما ظنت أنني في آخر أنفاسي لشدة تأثير المرض علي، تسمع كلمات السيدات من هنا وهناك: (كويس إنك لحقتي أمك وتودعيها قبل ما تموت)".

تعتلي ملامحها نظرات أمل:  "قلت يا رب أعيش عشان خاطر أولادي".

ولادة "الياسمين"

ومن هنا ولدت بداخلها فكرة تنفيذ مشروع، تثبت أنها ليست عبئًا على عائلتها والمجتمع، تصنع الكعك، والمعمول، والكبة، والمفتول، والمربيات، والمخللات، وأكلات "أيام زمان"، والدجاج وكل ما يدخل بمشتقاته من أسماء شرقية وغربية، لتعيد إحياء هوايتها منذ أن كانت طفلة في مطبخ "مأكولات الياسمين".

أقراص بحلقات دائرية تزين الأواني، وحبات الكعك يجاور بعضها بعضًا، هكذا يبدو المشهد.

يشع وجهها مثل وميض ضوء متوهج بالفرحة، وهي تنتقل إلى محطة أخرى: "تطوعت بمؤسسة العون والأمل (لرعاية مرضى السرطان)، ودعموني في العلاج، ووفروا لدي الأدوات الخام لمشروعي".

يبتسم صوتها وملامحها معًا بعفوية: "صرت لما أروح مستشفى "غزة" الأوروبي، ينبسط الطبيب مني، لما يسألني: "ليش تأخرتي؟"، وأحكيله إنه كان عندي طلبيات، فيسألني عن الوصفات، وياخد طريقتها (...)  صرت أحس إني مش مريضة، والناس تشعر بهيك".

لماذا أنشأت المشروع؟، "فكرت فيه عشان خاطر أولادي، بديش أكون عالة عليهم" ترد بعفوية، وتقول: "تكلفة المسح الذري تبلغ ألف شيقل في مستشفيات الضفة الغربية، وقد أجريتها 10 مرات على مدار عامين، فضلًا عن التحاليل الطبية حينما تكون غير متوافرة بالمشفى وأجريها على نفقتي الشخصية".

إنسانة فاعلة

"انتقلت من إنسانة مريضة إلى فاعلة؛ المرض يريد دعمًا وإرادة، فجرعة الكيماوي كانت تجعلني أبكي يومين، لكن المؤسف هنا أن نظرة المجتمع إلى مرضى السرطان غير مفهومة، تنظر إلى المرض أنه موت وفقد للحياة، لكني أثبت أن مرض السرطان يمثل لي بداية حياة".

تسحبها الذكريات لطفولتها رابطة بين الماضي والحاضر: "تعلمت الأكل منذ صغري؛ فطبقت كل الأكلات التي تعلمتها في مشروعي البيتي".

ازدهر اسم "الياسمين"، وتشاركت العائلة في مساعدتها بعدما بدأ عملها ينشط أكثر فأكثر.

تشير نحو الصالة التي تجلس فيها: "الدار بتكون عايمة، هدا الصالون بكون رافعاه كله".

تغمرها ابتسامة: "مرة وصل إلي طلب بإعداد 50 كيلوجرامًا من الكعك والمعمول، فاستعنت بجميع أبنائي".

أظهرت صورة مقطعية حديثة وجود نسبة أورام، بعدما سافرت لمركز الحسين بالأردن، وهناك تلقت علاجًا دون الحاجة لاستئصال الثدي الآخر، وتنتظر مدة شهرين لظهور النتائج، لكنها تخبرنا بما تشعر به: "حاسة رجلي، وإيدي بجعوني".

اصطحبتنا هناء إلى مطبخها الصغير، تعرفنا إلى مكوناته، تستدرك: "لكن أهم معاناة لدي هي فصل الكهرباء، فهناك مأكولات تحتاج للتخزين بين الفصول، مثل السبانخ، لكن بسبب أزمة الكهرباء تلفت كميات كبيرة منها، كلها مشاكل تواجهك (...) الأمر المرهق هنا أنني أعمل بيدي اليمنى، وهو اتجاه مكان العملية، فرغم الألم الذي أشعر به أواصل العمل".

 

 

 

اخبار ذات صلة