ساهمت عوامل متعددة في ظهور انقسام واضح داخل صفوف حركة فتح، فمنذ غياب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ظهرت أزمة حقيقية داخل التنظيم، ففتح لم تستطع إيجاد شخصية بثقل عرفات ووزنه السياسي والوطني، والفراغ بدا واضحًا منذ تولي محمود عباس رئاسة السلطة وصعوده على رأس الحركة، إذ بدأت الانتكاسات تعصف بالتنظيم والخلافات تتعمق مع القادة المؤسسين، وقد فشل عباس في إدارة هذه الخلافات أو تطويقها، ما اضطره إلى إزاحة كثير من الشخصيات الفاعلة واستبدال بها كوادر وطواقم يعتقد أنها مضمونة الولاء لولي النعمة.
فعباس قد تنصل من أهداف الحركة التي انطلقت لتحرير فلسطين بتبني الكفاح المسلح ضد الاحتلال، لينقلها إلى حركة تؤمن بالسلام وتجرم الفعل المقاوم، وأشرف بنفسه على إقامة علاقات أمنية مع الاحتلال الغرض منها منع اندلاع انتفاضة وإيقاف نشاط العمليات، مطالبًا باستهداف أي مقاوم مطلق صاروخ أو غيره، الأمر الذي أضر بالتشكيلات المقاومة لحركة فتح، وكان منها (كتائب شهداء الأقصى).
لم يقف دور عباس عند هذا الحد، بل استغل المناصب لكسب الولاءات ومارس التهميش والإقصاء لمعارضيه داخل الحركة، وقد استخدم العصا الأمنية لتكميم الأفواه وردع المعارضين، إضافة إلى تسخير ملف الرواتب في تمرير سياساته وتخويف كل المناهضين، فقطعت رواتب المئات، وبعضهم أحيلوا إلى التقاعد الإجباري، في حين أوقفت الموازنات عن ساحات مختلفة تابعة لفتح.
وقد دفعه فريق المكر والدسيسة لملاحقة بعض كوادر الحركة في الخارج، والتضييق عليهم ودعوة الدول لطردهم، إضافة إلى فصل آخرين لشبهات فساد أو لإضرارهم بمصالح الحركة والسعي لتقويض سلطة الحكم، فمستشاروه قد أعدوا رزم الملفات التي تطفح بالتهم ولا تكاد دفتاها تغلقان من كثرة المستندات، فالاستهداف أيضًا امتد إلى المجموع الوطني بصور مختلفة، لكني أفرد مقالي للحالة الفتحاوية.
لكن في السنوات الأخيرة سرعان ما هرم عباس وخارت قواه وخشي القوم على مصالحهم، وبدأ اللعب على المكشوف؛ فالعديد من الشخصيات الفتحاوية أبدت استعدادها إلى قيادة السلطة، وأظهرت قدرتها على إدارة المرحلة الراهنة والوفاء بالالتزامات، في لقاءات منفصلة مع الإسرائيليين، في سباق سري أو علني لبيع أنفسهم، على قاعدة التشهير والتشكيك بالقيادات الأخرى وإثبات عدم قدرتها على التغيير.
ومنهم من نجح في مراسلة أو مقابلة شخصيات أمريكية لتسويق نفسه، وآخرون استنجدوا بنظرائهم أو مشغليهم من العرب، إن صح التعبير، فكلٌّ منهم يجد نفسه المخلص ويقول بلسان حاله: "السلطة تنهار وأنا جاهز لإنقاذها"، لكن بين هؤلاء من نجح في تبني رؤية مختلفة، واختصر الطريق بإحياء حوار وطني عاجل يمكن به إحداث توافق وطني يؤدي إلى إنهاء الأزمات الفلسطينية، ويشكل فرصة لإعادة بناء المؤسسات، ويدفع باتجاه مواجهة التحديات الراهنة.
وقد ظهر على السطح جبريل الرجوب أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح راعيًا لهذا التوجه، وقاد جهودًا كبيرة لإنجاح الحوار الوطني مستندًا إلى تفويض من رئيس السلطة محمود عباس، وفقًا لما هو معلن، لكن هذه الخطوات لم ترق عزام الأحمد عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، الذي حاول وضع العصي في الدواليب محملًا حماس المسؤولية عن عرقلة الجهد القائم، ومعربًا عن خشيته تبدد الأمل، ما يشير إلى وجود خلاف وصراع عميق داخل الحركة بشأن هذا الحوار، ويدل على مساعٍ لإفشاله.
في حين بقي الرئيس غارقًا في انتكاساته الصحية والسياسية لا يقوى على لجم الأحمد أو منعه من الإفراط في تصريحات كهذه، الأحمد ليس وحده يعمل بوتيرة معاكسة؛ فقيادة الأجهزة الأمنية أيضًا رفعت من وتيرة الملاحقة والقمع لأنصار حماس في الضفة، ورفضت السماح بالإفراج عن أي منهم، بدعوى تنفيذ توجيهات أمنية إسرائيلية وأمريكية وعربية تخشى تمدد نفوذ حماس في الضفة، ولديها مخاوف من مستتبعات الحوار الجاري.
فالمشهد الآن خرج من يدي عباس والقوم يأتمرون من خلفه، حتى ما ينقل إليه من مخاوف هو غير قادر الآن على مواجهته؛ ففريقه مبعثر، وقدرته على التأثير انخفضت، وبدأ وقت الهرولة أيهم يقفز أولًا وليحترق الجميع، لذلك فلتنهض القيادات الوطنية الفتحاوية لحماية الحوارات الجارية بكل السبل، وتقف في وجه العابثين بقوة وصرامة لإنقاذ المشروع الوطني قبل فوات الأوان.