فلسطين أون لاين

أروى والسرطان.. بـ"رحلة حب" تخوض "جولات حرب"

...
غزة- سجى حمدان:

لم يكن القرارُ سهلًا حين شرعت "الكوافير" في حلاقة شعرها على الصفر، وكأن كل شعرة تبادر بالاستغناء عنها أولًا دون أن تسقط وحدها هي هدفُ انتصارٍ تُسجِّلُهُ في مرمى المرض.

تنتهي الكوافير من عملها لتتركها "صلعاء" جريًا على طلبها، تنظر أروى الريس إلى نفسها بالمرآة والذاكرة تأبى القفز عن لحظة سقوط خصل شعرها كاملةً بين يديها بعد تلقيها أول جرعة من "العلاج الكيماوي"، ثم ازدياد حالته سوءًا حين لمسته المياه خلال استحمامها فتحول إلى "كومةٍ متشابكة لا ينفك بعضها عن بعضٍ".

الطبيبة أروى التي استقبلتنا عند المدخل بحجابها الكحلي، ولهجتها "الشاميَّة" التي عادت بنا إلى الثلث الأول من حياتها في سوريَّة قبل العودة إلى غزة، وما استطعنا أن ننحي النظر عن شجيرات الورد التي تسلقت جدران المنزل وأعمدته لتترك في النفس انطباعًا بأننا في أحد "البيوت الدمشقية الوسيعة" ليس إلَّا.

قررت الخمسينية أروى تقديم "تقاعد مبكر" من قسم طب الباطنة بمستشفى الشفاء، والتفرغ لمشروع مَدرسة، هدفت من ورائه إلى بناء لبنة المجتمع الأولى (الأطفال) وتربية أجيالٍ تقف على أرضية صلبة من الدين والأخلاق الحميدة، إلا أن عقبة لم تؤخذ في الحسبان تعترض طريق هذا المشروع الإنساني في منتصفه.

الصدمة الأولى

في عيادة الطبيب.. شرعت يداها المرتجفتان بفرد سجادة الصلاة اتجاه القبلة، تطيل الصلاة علَّها بذلك تُدفئُ عروق الجسد المنكمش، وتحطُّ السكينة على القلب المنقبض، قد قضت سنواتٍ عدة بين المرضى تُداويهم وتهدئ من روعهم فتشرح لهم طبيعة المرض أو المشكلة، لتتبدل الأدوار وتأخذ اليوم مكانهم منتظرةً هذا الطبيب الذي يجلس وراء المكتب يدوِّن ملاحظاته من خلف النظارة السميكة بعدما عاينت من ملامحه جدية الموقف.

"هداك المرض" الذي يخاف الغالبية من نطق اسمه صراحةً، كان قدرُ أروى الذي توقعته سلفًا حين تحسست بيدها وجود "كتلة"، فيثبت الشك، وتتبدل الهواجس باليقين المرير، لتمسي حقيقة "سرطان الثدي بدرجته الثالثة" بمنزلة عضويةٍ لها في "جيش المحاربات" الذي يزدادُ يومًا بعد يوم، لكنَّ أروى أبت إلا أن تكون في الطليعة تُحاربُ خطر الموت بمزيدٍ من الحياة كأنها في أعوام العمر الأولى؛ آخذةً بقاعدة: "اعمل لحياتك كأنك تعيشُ أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموتُ غدًا".

"إنما الصبرُ عند الصدمة الأولى" هكذا تصف أروى تلقيها الخبر في حديث مع صحيفة فلسطين، خصوصًا أنَّ الاعتقاد السائد أن مريض السرطان إنسان محكوم عليه بـ"الموت"؛ فلم تجد أروى بُدًّا من رَفعِ يديها بالدعاء أن يثبت الله قلبها لما هو آتٍ.

كان قرار العملية الجراحية لاستئصال الثدي خطوة مؤلمة؛ ذلك أنها ستفقدُ "رمز الأمومة" كما يُقال، لكنها تقتنع أن الإنسان يمكن أن يأخذ بعض القرارات الصعبة في حياته حتى يستمر، وتضربُ مثالًا على هذا قائلةً: "كما الإنسان يتألم من ضرسه فيضطر أحيانًا إلى خلعه عندما تستحيل سبل العلاج، فلا بدَّ من التضحية بالجزء رغم ضروريته حتى تستمر حياة الكل".

أول من علم بمرض أروى وإجراءات الفحص والعلاج كانت صديقتها، ورغم أن الإخوة أقرب أروى حرصت على عدم إخبارهم في البداية "حفظًا لقلوبهم"، بيدَ أنَّ ذلك "حزن" لا بدّ منه، فتكون كلماتهم المطمئنة مددًا إضافيًّا تبقى بمؤازرته على قيد المواجهة.

قرر أخ أروى أن يرافقها في أولى جلساتها العلاجية؛ لتُفاجأ به حين جاء وقد حَلَقَ شعره كاملًا، "هذا الفعل لا يُسعدني، ولكن الشيء الذي ربَّتَ على قلبي هو عدم تركي وحيدةً في أيٍّ من مراحل المرض" تعلِّقُ وهي تتجاذب بين هوة المرض وطوق النجاة الذي يمسك أحبِّتها بطرفيه.

المفاجأة المتوقعة

 "تساقط الشعر" ملازم لمتلقيات العلاج الكيماوي، إلا أنَّ قلب أروى لم يجد بدًّا من الانتفاضِ حزنًا واستغرابًا حين ضرب الحدثُ أرض الواقع بشراسة، لتقرر الاستغناء عنه كاملًا وارتداء "الطاقية" مرحلة مؤقتة.

ورغم أن المرض شدَّ رحاله إلى أروى بالتزامن مع إنشائها مشروع المدرسة ودراستها "دبلوم التربية" بعد استقالتها من مجال الطبّ، لم تفوِّتُ اختبارًا، مهما كانت حالتها، تتناسى أوجاعها وتباشر الاعتكاف على الكتب، وتضطر أحيانًا أن تخفي "الأنابيب العلاجية" تحت جلبابها وتذهب إلى الاختبارات، ليكون أخوها سمير مرافقها في هذه الرحلة فيضع كرسيًّا أمام باب القاعة متأهبًا لأي حدثٍ طارئ من إغماءٍ أو إعياءٍ أو ما شابه.

تستمر أروى بوتيرة الحياة الطبيعية حتى عند تلقيها الجرعات العلاجية، "كنت أقاوم المرض بإشغال نفسي" تتحدث أروى وفي عينيها فخرٌ بنفسها المقاتلة، فقد كانت ترتاحُ يومًا واحدًا بعد الجرعة، ثم تباشر في اليوم التالي النزول إلى الميدان لمتابعة إجراءات المدرسة التي تعهدت ببنائها ماديًّا وروحيًّا.

"لطالما تقيأت وأنا في مكتبي بالمدرسة، أو حين ركوب السيارة" تباشر الحديث عن أعراض العلاج الكيماوي، إلا أنها أبت أن يكون ذلك وهي تجلسُ في غرفتها المعتمة ملتحفة غطاء المرض، وإنما في خضم الحياة مستمسكةً بسيفِ العمل والعطاء، و"أجراسُ الأمل" في قلبها تُقرع، ذلك أنَّ الاستسلام ليس خيارًا مطروحًا في هذه المعركة.

من أصعب ما يمر على مريض السرطان ألا يجد دواءه متوافرًا، وكأن معاناةً واحدةً لا تكفي حتى يزداد فوقها منغصات إضافية، فاضطرت أروى إلى أخذ الدواء البديل الذي سبب لها حساسية شديدة خلال تلقيها العلاج في المشفى، وكادت تفقد حياتها في إثر ذلك.

"كُلُّ مُرٍّ سيمر"

لم تسخط أروى يومًا على مرضها، كيف تفعل وهي المؤمنة بأنه "يبتلى الرجلُ على حسب دينه"؟!، حالتها استقرت إلى حدٍّ ما، لكن مريض السرطان لا يشعر أبدًا أنه وصل إلى بر الأمان، فاحتمالية العودة موجودة، "ولكن أنا ظنِّي بالله جميل" تضيف أروى وابتسامةُ الرضا ترتسم على عينيها قبل شفتيها.

لا تتردد أروى في نقل تجربتها ودعم مريضات السرطان اللاتي يبدأن العلاج حديثًا، فلا تتوانى إلى زيارتهن في بيوتهن، مبادرةً بالحديث عن تجربتها رافعةً راية "كل مرٍّ سيمر"؛ آخذةً بأيديهن إلى ضفاف الظن الجميل.

في البيت الرحيب.. شرعت أروى بتنسيق طابور الأزهار على ردهة الشرفة بعدما تمايلت البتلاتُ راقصةً مع إيقاع الرياح التي ضربت وجهها بخفة، رفعت رأسها مبتسمةً لتلحظ أنها عادت قادرةً على فتح جفنيها تحت أشعة الشمس مجددًا وقد نمت الرموش بعد غياب..

تدرجت ألوان السماء وزهت برتقاليةُ الغروب، تأملت أروى المشهد وهي تفكرُ كيف تعارف الناس على محاربة السرطان بأنها "رحلةُ شقاء"، لكنها أطلقت عليها "رحلة حب"، فـ"الله إذا أحب العبد ابتلاه"، وما زالت توقن أن "الحرب جولات"، وإن انتصرت فيما مضى فهي على أهبة الاستعداد للجولات القادمة؛ إن جاءت.