تحتضن كتاب اللغة العربية بين ذراعيها وكأنَّه طفل صغير عاد إلى أمه بعد غياب طويل، ممسكة بيدها الأخرى "الطباشورة" تنفض عن نفسها عبء "وغلبة" التعليم الإلكتروني، ومشكلات التحميل، والتنزيل، وتعطل البرامج، وأصوات البائعين التي أفشلت تسجيل العديد منها، خلفها مسرح الشرح (اللوح) الذي لا غنى عنه، تنفرد الطالبات أمام ناظريها مع مسافة تباعد بينهن بحيث تجلس كل طالبة على طاولة، عادت لحمة مشهد غيبته جائحة "كورونا" عن المعلمة والطالبات والذي يشكل أساس العملية التعليمة خاصة في مرحلة الثانوية العامة.
تقرأ مدرسة اللغة العربية في الصف الثاني عشر علمي بمدرسة بشير الريس بمدينة غزة نجاة درويش آية قرآنية: "وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ"، قبل أن تسأل؛ تشرح للطالبات: "طبعًا هذه كلها أحداث يمر بها سيدنا يوسف، وهو الكريم ابن الكرماء.. نبي، ابن نبي (يعقوب)"، ثم تدخل في جو الأسئلة: "ما إعراب يتم وإعراب الهاء في نعمته وآل؟"، تتسابق الطالبات في رفع أيديهن للهواء، ثم تجيب إحداهن: "يتم؛ فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، ونعمة: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة".
يعقوبَ؟ لماذا فُتِحت؟ تسأل المدرسة، وتأتيها إجابة جماعية فورية: "لأنها اسم من أسماء الأنبياء وهي ممنوعة من الصرف"، ثم توضح المدرسة قائلة: "أسماء الأنبياء ممنوعة من الصرف، عدا الأسماء المجموعة بكلمة "صن شمل" وهي سيدنا، صالح، ونوح، وشعيب، ومحمد، ولوط" وبعضها يمنع ويصرف.
قابلتنا المدرسة درويش بوجه تعلوه ابتسامة مشرقة سعيدة بهذا الجو التفاعلي بعد خمس دقائق استمعنا فيها لجزء من الحصة الرابعة، فتقول: "لا يمكن الاستغناء عن التعليم الوجاهي، فاللوح عصب الدراسة في توصيل المعلومة، ويختصر ساعات من التعليم الإلكتروني، الذي لا أرى فيه الطالبات (...) هنا عن طريق نظرتي للطالبة، وطريقة إجابتها، وملامحها، أعرف إن كانت حزينة، أو غير مستوعبة، كما أننا نعاني التعليم الإلكتروني فيما يتعلق بعدم معرفتنا الكافية للبرامج التي تسهل الأمر".
تركيز ومعلومة "ديلفري!"
"طبعًا، أنت هان بالصف بتلتهيش بالجوال، دايما مركز، ممكن تستفسر عن سؤال مش فاهمه، في التعليم الإلكتروني ممكن يجيك إشعار، النت يكون ضعيف (...) في أسبوع من رجعتنا على المدرسة قدرت أصحح كتير معلومات مش منتبهة الهم"، هذا الكلام العفوي المختصر قالته الطالبة ياسمين أبو حصيرة التي تجلس على المقعد الثاني.
على طاولة أخرى تضع الطالبة ياسمين أبو خاطر أدوات التعقيم اللازمة لحمايتها من انتقال العدوى: "أعقم الطاولة والمقعد من الطالبة التي جلست قبلي؛ فيجب الاهتمام بهذه الأشياء حتى لا تعدي أمك، أو أباك، أو أخاك، كما نحافظ على ارتداء الكمامة" تقول كذلك عن الدراسة وبدت سعيدة في ذلك بضحكة سبقت صوتها: "بتكون المس (معلمة) عندك بتسألها أي سؤال مش عارفه، بتوصلك المعلومة على طول، وممكن تتعلم من إجابات الطالبات وهدا بتوفرش بالتعليم الإلكتروني".
في أثناء جولتك داخل مدرسة بشير الريس بمدينة غزة، يلفت انتباهك الحديقة المدرسية على جانبي ملعب المدرسة بأشجارها الخضراء التي تبث روحًا منعشة في النفس، إلى أرضيتها اللامعة وممراتها وأدراجها المنظفة جيدًا، فآثار قشطها بالمياه والصابون لم تجف بعد، تبعث من الأرض رائحة التعقيم، فضلًا عن الفصول الملونة بألوان زاهية، برسومات علمية متعددة تحفز الطلبة، في داخل كل فصل تلحظ مسافات تباعد بين الطالبات مرتديات الكمامة.
مدرسة الرياضيات فاطمة الوحيدي، هي الأخرى لديها نظرة في عودة الدراسة الوجاهية: "نحاول توظيف التعليم الإلكتروني عن طريق برامج لتوصيل المعلومة بأبسط الطرق للطلبة، مثل استخدام البرامج التفاعلية، لكن يبقى الحضور الوجاهي شيئًا أساسًا، لكن مع تقليص وقت الحصة وعددها على مدار الأسبوع، حاليًّا مثلًا لديَّ حصة أو حصتان في الأسبوع نحاول توظيفها بالتركيز على الأهم".
وجدت الطالبة منار جندية (توجيهي أدبي) عودة الدراسة طوق نجاة لها، لكونها تفضل ذلك على التعليم الإلكتروني، مصارحة بلهجة عامية ضاربة يدًا بيد: "من ناحيتي معنديش أي وسائل تواصل مع المدرسة على الإنترنت، والآن وجود المعلم معك بخفف الضغوط النفسية وبحفزنا".
رن الجرس، انتهت الحصة الدراسية، في الأثناء تسير مدرسة الكيمياء تهاني حبوش، مثل مقاتل خارج من أرض المعركة، مغبرة بـ"الطباشير" التي تغطي ملابسها من "ساسها لراسها"؛ وهذا ما زاد سعادتها، وقالت قبل أن تذهب للحصة الأخيرة: "كوني أدرس مادة علمية (كيمياء) فمن الصعب الشرح دون وجود الطالبة أمامي، فهناك جزئيات تحتاج إلى الاستفسار عنها في ساعة الشرح، كما عانيت موضوع التعليم الإلكتروني، فتحتاج لمجهود كبير في تسجيل الشرح، وإرفاقه على الإنترنت، وتحتاج إلى هدوء للتسجيل، ففجأة يمر شخص أو صوت لبائع مثلًا يخرج بالتسجيل".
التركيز على الأهم
مديرة مدرسة بشير الريس الثانوية للبنات سعاد العمري، تقول إنه ووفقًا للظروف الحالية جرى تقسيم الطلبة لمجموعتين كل مجموعة تداوم ثلاثة أيام أسبوعيًّا، ويتم إكمال التدريس عن طريق الصفوف الافتراضية عبر الإنترنت، باتباع إجراءات السلامة، والتباعد، والمحافظة على النظافة الشخصية وارتداء الكمامة، وتعقيم كل مرافق المدرسة، وتنظيم الشراء من المقصف.
تضيف العمري لصحيفة "فلسطين": "هذه الأمور كانت تحتاج إلى تناغم بين إشراف المعلمات وأداء الطالبات، والآن بعد أسبوع من عودة الدراسة، فإننا نرى أن الأمور تسير بشكل ممتاز"، مؤكدة أهمية التعليم الوجاهي لطلبة الثانوية العامة، كمرحلة حساسة يختم فيها الطالبة اثني عشر عامًا دراسيًّا، و"ليس من السهل اختتام مسيرة طويلة بشيء من الاختلاف بطبيعية التدريس".
قسمت المواد المنهجية، وفق مديرة المدرسة، بما يناسب حضور الطالب، بتحديد المواد الثقل الأكبر في الدرس، وترحيل الأنشطة والتدريبات للصفوف الافتراضية.