إذا أردت دليلاً دامغاً على أن الله يبعث من في القبور، ويجعل من العظام والرفات خلقاً جديداً، فليس عليك أن تنظر أبعد من المملكة العربية السعودية التي استدعى عهدها الجديد الأمير بندر بن سلطان من الاستيداع والتعليب والصف المزمن على الرفوف، ليشنّ هجوماً حادّاً على الفلسطينيين. ثلاث حلقات من "الوثائقي الحصري" بثتها قناة العربية السعودية في بحر العشرة أيام الماضية مع بن سلطان، عرض فيها وثائق قليلة، وَتَقَوُلاً على أموات، وردح كثيراً على الفلسطينيين الذين وصفهم بـ"ناكري الجميل" و"جاحديه". الجاهل أو المتواطئ فقط هو من لا يدرك سبب هذا الاستدعاء لأميرٍ مهمّش في السنوات الأخيرة، على الرغم من أنه كان يوماً من أكثر الأمراء السعوديين نفوذاً، قبل أن تحل نكبة حقبة محمد بن سلمان على البلاد والعباد، بما في ذلك على كبار الأمراء، دع عنك المنطقة العربية والإقليم بشكل عام. بن سلمان لا يريد سعودية "جديدة" فحسب، بل هو يريد إقليماً جديداً يلائم (إسرائيل) وصاحب نعمته في واشنطن، دونالد ترامب، الذي نُقِلَ إلينا تبجّحه عام 2017، بعد انقلاب بن سلمان على ابن عمه، وليِّ العهد حينها، محمد بن نايف: "لقد وضعنا رَجُلَنا في القمة".
اختيار بندر للهجوم على الفلسطينيين لم يكن اعتباطاً. هو رجل عمل سفيراً لبلاده في الولايات المتحدة لمدة تجاوزت العقدين (1983-2005). بمعنى أنه عاصر أربعة رؤساء أميركيين، بدءاً من رونالد ريغان، مروراً بجورج بوش الأب، فبيل كلينتون، وانتهاء بجورج بوش الابن. ولا يخفى على أحد أن بن سلطان كان قريباً جداً من دوائر صنع القرار الأميركي، بما في ذلك البيت الأبيض، وهو كان مقرّباً جداً من عائلة بوش. وبحكم سنوات عمله، كان الرجل شاهداً ومشاركاً في أحداث مفصلية أثرت في مسار المنطقة وتشكيل واقعها ومستقبلها. من ذلك، انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987. ثمَّ حرب الخليج الأولى والعدوان على العراق عامي 1990-1991، بعد غزوه الكويت. وبعد ذلك انطلاق مؤتمر مدريد للسلام بين العرب وإسرائيل عام 1991. مروراً باتفاق أوسلو عام 1993، وما تبع ذلك من فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية بين الفلسطينيين والإسرائيليين وانطلاق انتفاضة الأقصى عام 2000. ثمّ هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن، وما ترتب عليها من غزو واحتلال لأفغانستان في العام نفسه، ثمَّ العدوان الثاني على العراق واحتلاله عام 2003. وما بين تلك المحطات محطات أخرى كثيرة. وفي عام 2005 عين بندر أميناً عاماً لمجلس الأمن الوطني السعودي، ثمَّ رئيساً للاستخبارات عام 2012، فمستشاراً للملك الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، عام 2014، وصولاً إلى ركنه على الرفّ منذ اعتلاء سلمان بن عبد العزيز العرش مطلع عام 2015.
إذاً، تلك هي "مؤهلات" بندر بن سلطان التي تَوَهَّمَ بن سلمان أنها ستعطي كلامه مصداقية أمام الشعب السعودي، عندما يهاجم الفلسطينيين ويتجنى عليهم. لا شك أن بعض كلام بن سلطان كان فيه حق، كقوله إن القضية الفلسطينية قضية عادلة، ولكن محاميها فاشلون. وكذلك عند حديثه عن الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني المخزي. ولكن كلامه ذلك يندرج في باب الحق الذي أريد به باطل. زعم أن فتحه صندوق ذاكرته وأسراره مرتبط بالهجوم الذي يشنه الفلسطينيون على دول، كالإمارات والبحرين، بسبب توقيعهما اتفاقيات تطبيع شامل مع (إسرائيل)، وهو الأمر الذي راعه. اتهم القيادة الفلسطينية بتضييع "الفرصة" تلو الفرصة، مدّعياً أن الرئيس الراحل، ياسر عرفات، رفض عرضاً عام 2000 من إدارة كلينتون وحكومة إيهود باراك كان سيمنح الفلسطينيين دولة مستقلة ذات سيادة، وذلك في تماه كامل مع الرواية الصهيونية - الأميركية الزائفة. وذهب إلى أبعد من ذلك، حين افترى على الفلسطينيين بالتآمر مع إيران وتركيا على أمن العرب ومصالحهم في المنطقة، بل وزعم أن قطاع غزة المحاصر، إسرائيلياً ومصرياً، هو "بؤرة" تصدّر الإرهاب إلى سيناء ومصر!
كانت المهمة الموكلة لبن سلطان (أفلت إلى الآن من إهانة الاعتقال والتعذيب وتهم الفساد على غرار أبناء عم آخرين له، ولكنه عانى إهانة التهميش، والآن تشويه تاريخه أكثر مما هو مشوه) هي لوم الفلسطينيين، وإدانتهم أمام الرأي العام السعودي والتذكير بـ"جحودهم" "أفضال" السعودية عليهم تاريخياً. يريد بن سلمان أن يؤسّس لمعادلةٍ جديدةٍ في الوعي السعودي تقوم على أساس "نحن" أو "هم". بمعنى، إما سلامنا واستقرارنا وازدهارنا نحن السعوديين أو الوقوف مع الفلسطينيين ومشكلاتهم الكثيرة وغدرهم بحلفائهم وأشقائهم، كما يزعم. نعلم أن سعودية بن سلمان تروم تطبيعاً كاملاً لعلاقاتها مع (إسرائيل) علنا، فالتطبيع قائم فعلياً، ولكنه غير رسمي بعد، وهو يريد أن يلحق بحليفيه، الإماراتي والبحريني، واللذان حصلا على مباركته ودعمه. حسب منطق بن سلمان، فإن الفلسطينيين لا يريدون السلام ولا الاستقرار في المنطقة، ونحن لن ننتظرهم إلى الأبد. هذا بالضبط ما قاله بندر تكليفاً.
لم يعد في النظام الرسمي العربي الجديد ما يُسْتَغْرَب. ما يجري هو إعادة صياغة لكينونة المنطقة ووعيها وانتمائها ومقارباتها مصادر التهديد. بالنسبة لجلِّ النظام الرسمي العربي الجديد، فإن الإسلام لم يعد يوحدنا، ولا العروبة تجمعنا، فنحن اليوم "شعوب الشرق الأوسط"، حسب "اتفاق أبراهام" الأميركي الذي تسارع السعودية والإمارات والبحرين، ودول عربية أخرى تنتظر دورها، إلى ترجمة اشتراطاته التي تصبّ جميعها في صالح إسرائيل. ولكن ما لم يفهمه هؤلاء أن الشعوب قد يتشوه وعيها، ولكنه لا يفنى أبداً، وقد تخفت طاقتها، ولكنها لا تموت، وانفجارها مسألة وقت.
حتى الأمير بندر، المكلف بدور الهجوم على أصحاب الحق، كاد أن يزلّ لسانه ليتسق مع ضميره، عندما أراد أن يستشهد بالقرآن الكريم. كاد بن سلطان أن يتلو قول المولى في سورة المائدة، الآية الثانية والخمسون: "فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ". تحيل هذه الآية بوضوح إلى المعتدين من اليهود، زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، ويمكن أن توظف راهناً في سياق الإحالة إلى الصهاينة من اليهود المعتدين اليوم. ولكن الأمير المرتعد من ابن عمه الأصغر، ولي العهد، بلع لسانه بسرعة، واستنجد بآية كريمة أخرى، أخرجها من سياقها، ووجّهها طعنة نحو صدور أشقائه من الفلسطينيين: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد: 11). فعلاً، صدق رب العزة جلَّ وعلا: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ"، ولذلك ليس عندنا أمل فيكم، ونعلم أن سنة التغيير ستطاولكم، "وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم" (محمد: 38). إن نهضة شعوبنا حتمية قادمة، وكذلك استعادتها لوحدتها، ومهما حاولتم تزييف الوعي، فإنكم لن تنجحوا في تقديم (إسرائيل) حليفاً، بل ستبقى دوماً عدواً لكل طموحاتنا وآمالنا ومستقبلنا ووجودنا.