فلسطين أون لاين

الفتى يدخل "قائمة القدامى".. 28 سنة "تذبل عمر" الأسير "الأغا"

...
غزة - يحيى اليعقوبي:

تقف أمه بين مشغولاته التي أرسلها من قلب السجن تشتم "رائحته"، وتتأمل صورتيه المعلقتين على أحد جدران المنزل، وقد طرقت الـ70 سنة ولا تعرف أستحظى بعناق غاب طويلًا، سوى تلك الصورة الوحيدة التي جمعتهما معًا داخل الأسر ولم تزد على ثلاث دقائق، لم تروِ عطش أم مشتاقة لنجلها الأسير، في غياهب السجن.

"كما كتب لابني ضياء دخول السجن سيكتب له الخروج، دخل السجن بعمر الزهور وأمضى 28 سنة، مدة ليست هينة أو قليلة" تقلب والدته ذكرياتها، تفتقد ضياء الطفل في الانتفاضة الفلسطينية عام 1987م، "حينما كانت تطارده قوات جيش الاحتلال في الحارة بسبب رفعه العلم على أعمدة المستوطنات، فيمطرهم بوابل من الحجارة" تقول والدته.

"قبل ثلاثة أيام من تنفيذه العملية، رأيته لا يأكل ولا يشرب، تفاوضت معه كثيرًا حتى يأكل تفاحة، حينما دخلت عليه في غرفته وجدته غارقًا في تفكير عميق شارد الذهن، فقلت له: "يمّا؛ كل، ما أكلتش"، لكن بقي يفكر، حتى تحركت عقارب الساعة عند الثالثة إلا الربع، وخرج من المنزل، حاولت منعه، إلا أنه أخبرني أنه سيشتري حذاءين ويعود للمنزل" ما زالت ذاكرة والدته تحتفظ بهذا اليوم جيدًا بكل تفاصيله، تعيد نسج أحداثه من الطرف الآخر لسماعة الهاتف لصحيفة "فلسطين".

في العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) 1992م، نسبت صحف عبرية لفتى من مدينة خان يونس (16 عامًا)، تنفيذ عملية بوساطة معول في مستوطنة "غوش قطيف" التي كانت مقامة على أراضي خان يونس، أدت إلى مقتل ضابط في جيش الاحتلال، شارك في اغتيال شهداء الفردان القادة الثلاث (كمال عدوان وكمال ناصر وأبي يوسف النجار).

سرعان ما اقتحمت قوات مدججة من جيش الاحتلال، بيت الأغا آنذاك، بعد أن حاصرت المنطقة بالكامل، وفتشت بيوت الجيران، المشهد محفور في مخيلة أمه: "القوة المقتحمة اعتقلت شباب المنطقة، اصطفوا على الحائط، البيت تحول إلى مركز تحقيق، أجهزة مخابرات الاحتلال استمرت في جمع المعلومات، حتى وصلت إلى طرف خيط أنه قد يكون عند أخته".

أجبر ضابط الاحتلال والدة الأغا على أن تحدد له البيت، ووضع شريطًا لاصقًا على فمها، وأخرج ابنها من البيت مقيدًا، حاولت المناداة عليه لتودعه، لكن الصوت لم يخرج من الحنجرة.

في خان يونس، لم يترك الاحتلال العائلة وشأنها، فاستخدم سياسة "العقاب الجماعي" بحقهم، وظلت آثار العملية تشكل هاجسًا له، فسعى للانتقام من العائلة، تارة بالاقتحام، وتارة أخرى بالتهديد بهدم البيت.

الأسير الأغا من بين 29 فلسطينيًّا زجهم الاحتلال في سجونه قبل اتفاقية أوسلو، ورفض الإفراج عنهم بعد توقيعها.

تفصح أمه عما يختلج صدرها: "أفتخر أمًّا بما صنعه ابني لأجل وطنه، لكن لو كانت هناك ضغوط حقيقية من المؤسسات الحقوقية العالمية التي تدعي الإنسانية، لما اعتقل مدى الحياة".

الزيارة الأولى

متى كانت أول زيارة له؟، "بعد تسعة أشهر من الاعتقال -تقلب في ذاكرتها- انتظروه حتى بلغ 17 عامًا، ثم حكم عليه الاحتلال بالسجن 99 سنة (...) لم تردنا أي معلومات عنه يومها، حتى اتصلت بنا محامية اطلعت على قصته، وأخبرتنا أنه خرج من العزل، وأنه يمكن تقديم تصاريح زيارة له، وتقديم ملابس".

هناك خلف قضبان الاحتلال افتقد ضياء إخوته، ظل حنينه إليهم يلاحقه، إلى أن أسر الاحتلال شقيقه الأصغر محمد في 2003م، في بداية الأمر تفرقا بين السجون، إلى أن التقيا بالسجن نفسه في قسم واحد.

وقبل أن يغادر محمد السجن بشهرين تمكن من البقاء بغرفة واحدة معه في سجن "نفحة".

هون محمد الذي دخل السجن في أول العشرينات من عمره، وأمضى 12 سنة حتى أفرج عنه في 2015م، مرارة السجن على شقيقه، فكان ضياء يشتم رائحة العائلة منه، يطلعه على كل التغيرات التي حصلت في غيابه، يراجع معه كل صغيرة وكبيرة "لم يعشها"، وتفاصيل أخرى من يوميات العائلة، ومظاهر التغير التي حدثت في غيابه، بحارته، وخان يونس.

"صحيح أن ضياء كان سعيدًا بأن نال شقيقه الحرية، لكنه تأثر كثيرًا ، إذ كان يخفف عنه وطأة السجن، بعض الأسرى أخبروني أنه ظل لا يأكل، حتى وصلني الأمر وتحدثت معه في إحدى الزيارات" تقول.

حرمان ومنع

رغم المنع، والرفض أحيانًا، ومسافة الطريق الطويلة، وإجراءات الاحتلال المعقدة، الزيارة تمثل لهذه الأم "عيدًا"، يذهب كل آلامها: "بمجرد أن أدخل السجن، وأنظر إلى عينيه من خلف الشباك، يذهب كل التعب، وتمثل لي فرحة كبيرة (...) لكن –يا للأسف– منذ ثلاث سنوات يحرمني الاحتلال زيارته".

تعبر المسنة عن الحزن الذي يعتريها: "صحتي ليست كما يجب، أمنّي النفس أن يخرج من السجن وأنا على قيد الحياة، كي أفرح به، وإذا لم يشأ الله أن أراه، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وهذه ضريبة التضحية ندفعها ونصبر عليها".

"يوم تحررت الدفعة الثالثة من أسرى ما قبل أوسلو، توقعنا أن يكون من ضمنهم، لكنه لم يكن كذلك، وكنت منهارة وهو الذي يهدئني: (شدي حيلك يمّا، إذا ما طلعتش بهادي الدفعة راح أطلع باللي بعديها)".

مرت 28 سنة، والأمل يمنح أمه كل مرة موعدًا جديدًا مع الفرج، تطوي كل سنة أخرى، لعله يحدث ما يتمناه القلب.