يطالعنا الإعلام السعودي الإماراتي كل حين بخبطات إعلامية جديدة، تصفع الوعي والذوق لعموم الأمة، وتصادم أبسط ثوابتها، وتمسّ الحق الفلسطيني بشكل مباشر، وتخدم –بالضرورة- الرؤية الصهيونية، وتروّج لسياقات الغرام بالتطبيع والتقارب مع الكيان الصهيوني.
آخر الفذلكات الإعلامية السمجة كانت المقابلة التي أجرتها قناة العربية مع رئيس الاستخبارات السعودي السابق بندر بن سلطان، والتي يمكن تلخيصها بأنها مركزة لتخدم فكرة شيطنة الفلسطيني شعباً وقيادة، وسلوكاً سياسياً ومشروعاً مقاوما، والنفخ في الدور الرسمي السعودي تجاه القضية الفلسطينية، عبر التغني بحنكتها وحكمتها مقابل (الغفلة والسذاجة) الفلسطينية، إضافة بطبيعة الحال إلى المنّ على فلسطين بكل دعم قدمته المملكة، والتحسر على (الفرص الضائعة) التي بددها الفلسطينيون.
صحيح أن هناك أخطاء كارثية ارتكبتها قيادة منظمة التحرير في مراحل كثيرة من عمر القضية، وصحيح أن مسارها السياسي لم يفض إلى نتيجة، لكنّ هذا كله لا يمثّل إلا شطراً من الحقيقة، فالخضوع الفلسطيني الرسمي الذي قارفته قيادة المنظمة عبر تاريخها كان بضغط مباشر من الحكومات العربية، ومن بينها السعودية، حتى لم يعد هنالك ما يمكن أن تقدّمه المنظمة ثم قيادة السلطة لاحقاً في إطار تنازلاتها ومبادرات حسن النية لأجل إنجاح مشروع التسوية، غير أن كل تلك التنازلات كانت تصطدم بجدار الصلف والعنجهية والشراهة الصهيونية التي أسقطت منذ سنوات طويلة فكرة الدولة الفلسطينية، وبات واضحاً المدى الذي تريد الوصول إليه في ابتلاع ما تبقى من أراضٍ وفي تهويد القدس وتثبيت الاستيطان وإدامة واقع الكنتونات في الضفة الغربية، لأن هذا ما يناسب المشروع الصهيوني في نسخته الحديثة، بعيد معطيات خطة صفقة القرن وما تلاها من تطورات حادة، وهي التطورات التي تصادم الحق الفلسطيني وتنسفه تماما، ومع ذلك لا تجد حكومات التطبيع العربية وعلى رأسها الإمارات والسعودية ما يضير في خطة التصفية تلك، بل تمدّ يدها لتسالم الاحتلال متنكرة لكل فصولها التصفوية، ومحاولة دفع الحرج عنها بإشعال حرب الكراهية بين الشعوب وتوظيف اللجان الإلكترونية لتسفيه الفلسطينيين والنيل من حقهم، وتلميع صورة الصهيوني، وإظهار أنه كان مستعداً لتقديم ما عجز الفلسطينيون عن أخذه، بل ساهموا بتضييعه.
إن الدور الذي تمارسه أبواق النظامين السعودي والإماراتي خطير جداً، حتى وإن ووجه بموقف فلسطيني موحد رافض لفحواه وقادر على دحض حججه السفيهة، وحتى وهو يواجَه بإنكار على مستوى الأمة وأحرارها، من المحيط إلى الخليج.
هو خطير لأنه يعني أن السعودية بكل ما تمثله من مكانة وحضور، أو ما تزعمه لنفسها من ريادة لقضايا الأمة، تنسحب إلى درك وضيع للغاية صارت فيه بوقاً للرؤية الصهيونية بكل جدارة، لأن ما يحدث مفتعل ومقصود، ولم يأت نتيجة لتطور خلاف حقيقي بين فلسطين والسعودية، إنما لأن النظام السعودي بنسخته الحالية اختار أن ينسحب إلى هذا الخندق البائس، وأن يمارس التشبيح والتشويه والتزييف بكل ما أوتي من قوة ومال ومنابر إعلام، فيما هو يسيء للسعودية أولا، ولا يستفيد من جهده غير الكيان الصهيوني، الذي لم يفلح نظام عربي أو غربي في خدمته إعلامياً على مرّ تاريخه، كما خدمه نظاما السعودية والإمارات خلال السنوات الأخيرة.
عمليا، لا السعودية ولا الإمارات جديرتان بتقديم دروس في السياسة للفلسطينيين أو لغيرهم، لأنهما تمثلان مدرسة في الانبطاح وتضييع الحقوق وتمكين المستعمر من بوابات الأمة، وإجهاض آمال الشعوب في النهوض والتحرر وامتلاك القرار والسيادة.
وإن كانت قيادات النظام السعودي تهاجم الفلسطينيين اليوم بكل هذا السعار، فليس لأنها حريصة على الحق الفلسطيني الضائع، بل لأجل ما تلمحه من محاولات تصويب المسار فلسطينياً، والتراجع عن خطايا عديدة ارتكبها المستوى الرسمي الفلسطيني في سياق مراهنته على مشروع التسوية، وهي مراهنة كانت ترعاها السعودية التي ظلت إلى حدّ قريب المحدد لتوجهات السلطة ورؤاها، وهو ما كان يعبّر عنه محمود عباس في كثير من خطاباته قبل صفقة القرن وخطة الضم الصهيونية.
كل قضية عادلة اكتنفتها ممارسات سياسية أضرت بها، والقضية الفلسطينية ليست استثناء، لكن القيادة الفلسطينية للمنظمة والسلطة، التي تهاجمها اليوم قيادات ووسائل إعلام سعودية وتعيّرها بتاريخها كانت ابناً مخلصاً لسياسات النظام السعودي وكانت دائماً تستجيب لإملاءاته ومبادراته، ومن بينها مبادرة السلام العربية التي رعتها الرياض، أي أن النظام السعودي مشارك في الخطيئة السياسية التي ارتكبتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة، وهو مساهم أساسي في مسيرة التسوية التي أفضت إلى هذا الواقع، ولم تحصد غير الهباء.
وإن كانت قضية فلسطين عادلة ومحاموها فاشلون، كما يقول بندر بن سلطان، فإن هذا لا يبرر لنظامه أن يختار الانحياز إلى أعداء هذه القضية، لمجرد أنهم (محامون ناجحون)، وإن كانت معايير نظامه تقتضي الركون إلى صاحب القوة وإن كان ظالماً ومحتلاً وغاصبا، فلا أقل من أن يصمتوا عن هرائهم المتعلق بفلسطين، وأن يكفوا عن تأجيج معارك الكراهية والعنصرية داخل الأمة.