آخر العنقود: ماما افتحي لي الباب، اشتقت لك.
الأم: ارجع يا صغيري، الغرفة متسخة جدًّا، سأنظفها بالكلور.
كل دقة من يده الصغيرة كانت تصيب قلب حياة منصور لا الباب، ومع بكائه المتواصل متوسلًا إليها احتضانه يتمزق قلبها المنهك إعياء من فيروس كورونا، الذي تملك جسدها بسبب عدوى انتقلت إليها دون أن تدري في الثامن من أيلول (سبتمبر).
منصور (42 عامًا) تقطن في منطقة أبو إسكندر بحي الشيخ رضوان شمالي مدينة غزة، التي صنفت منطقة حمراء بسبب انتشار الفيروس فيها.
حياة كانت تعاني قبل اكتشاف إصابتها بكورونا التهابات شديدة في البول وصلت إلى الكلى، وارتفاعًا في ضغط دمها، الأمر الذي زاد من قلقها من تدهور حالتها الصحية بسبب هذه الأمراض.
شقت العدوى طريقها إلى حياة من طريق سلفتها التي لم تكن تدري أنها مصابة بالفيروس بعد انتقاله إليها من زوجها، الذي كان في زيارة إلى المغازي وسط قطاع غزة وأعلنت إصابته في الأيام الأولى لإعلان حالة الطوارئ في أواخر آب (أغسطس)؛ وفقًا لإفادتها.
تروي لصحيفة "فلسطين": "ظهرت عليه أعراض المرض، لم نأخذ الأمر بجدية، فلم تعلن حينها أي حالة مصابة داخل المجتمع، جاء دور زوجته في المبيت لدى حماتي، ودوري في المبيت كان في اليوم التالي، ونقلت لي العدوى".
"آلام حقيقية"
بدأت في الثامن من أيلول تشعر بآلام في المفاصل، وهبات ساخنة في جسدها تجعلها تتصب عرقًا بغزارة، مع انسداد شهيتها للأكل، وضيق تنفس، توجست حياة وأحست بالخطر، فخضعت لفحص "كورونا"، وكانت النتيجة إيجابية لها وسلبية لجميع أفراد أسرتها التسعة.
جلست على الكرسي مرددة: "الحمد لله إللي إجت فيّ ما إجت فيكم" لتهدأ من روع أبنائها عليها، على الفور اتخذت قرارًا بعزل نفسها في غرفتها ملتزمة بكمامتها وقفازيها حتى لا تنقل العدوى لهم، لا سيما أن زوجها وثلاثة من أبنائها يعانون حساسية في الصدر، حتى وصلت سيارة الإسعاف في الحادية عشرة ليلًا في اليوم التالي لتنقلها إلى الحجر الصحي مدة 14 يومًا.
الضغط النفسي في الأيام الثلاثة الأولى من اكتشاف إصابتها بالفيروس كان الأشد عليها، تقول: "أحسست بتدمير نفسي، شعرت بأني منبوذة لا أحد يقترب مني، الجميع خائف، صوت بكاء طفلي ذي السنوات الخمس مع عدم قدرتي على احتضانه كان يقتلني في اليوم ألف مرة".
تضيف: "كنت أخفف عنه بفتح باب الغرفة وأنظر إليه من بعيد، يجلس قبالتي نتبادل الحديث، يتعلل هو بوجع أسنانه لكي يحثني على الخروج، فكنت أنهار باكية وأدعو زوجي وابني الكبير لشراء الألعاب له لإلهائه".
بعد مضي نحو شهر على إصابتها، لا تنسى منظر أبنائها خلف الشبابيك يبكون مودعين إياها بعد وصول الطاقم الطبي لينقلها إلى الحجر الصحي، تظاهرت بالقوة، ولكن دموعها لم تجف عليهم وعلى مصيرها، تتصارع الأسئلة في رأسها ما المجهول الذي ينتظرها؟
في الحجر بدأت أعراض المرض تزداد وتيرتها حتى أصابها ضيق حاد في التنفس، شعرت كأن حجرًا ضخمًا جاثمًا على رئتيها مع عرق غزير متواصل، لا أدوية تخفف من أعراضه، بل ما استطاعت أن تفعله رفع مناعة جسمها بتناول أقراص الزنك والكالسيوم.
الدعم النفسي كانت تتلقاه من زوجها وأبنائها وصديقاتها، فهو لا ينفك يشعرها بأن البيت دونها فراغ، ولكن في أحيان كثيرة كان يشتد عليها المرض فتغلق هاتفها لأنها لن تتمكن من التلفظ بكلمة واحدة بسبب ضيق النفس، وتتعلل بأن بطارية هاتفها فارغة، لأنها تخاف أن يزداد قلقهم عليها، وفق قولها.
أيامها الـ14 في الحجر كانت تقضيها كما تقول في: تلاوة القرآن، والاستغفار والذكر، والصلاة، واللهج بالدعاء بأن يحول الله مرضها من محنة إلى منحة حتى تعود إلى أولادها.
كانت تمر عليها الساعات بطيئة في الحجر، كانت تعد الثواني لكي ينتهي هذا "الكابوس" وتعود إلى حضن عائلتها، تعترف: "في الحجر ليس لك أحد سوى نفسك، لذا عليك أن تقوي نفسك بنفسك، فالفيروس ضعيف أمام إرادتك إن قويت عليه".
وضعت 14 يومًا أوزارها، وحانت عودتها إلى البيت، استقبلها أبناؤها استقبال الأبطال، ولكن كان منقوصًا لأنها آثرت التزام عدم ملامستهم واحتضانهم والاقتراب منهم، حتى اليوم تحثهم على التباعد وألا يتنفس بعضهم في وجوه بعض.
ما يزال بعضٌ يزعم أن "كورونا" "غير موجود"، ترد قائلة: "كورونا يسري بين الناس بسبب عدم مبالاتهم، لو يتذوقون آلامه الحادة التي عشتها فسيبصمون أنه حقيقة، لا أزال أعاني آثاره بتقلصات أشعر بها بين كتفي".
رغم اكتمال شفائها تبين حياة أنها لا تزور أحدًا ولا تستقبل أحدًا، حتى لا تحرج وترى نظرة الخوف من الاقتراب منها.
ووصية أخيرة تقدمها للمجتمع: "لا تعدوا مريض كورونا وعائلته وصمة عار، لا تجرحوا مشاعرهم، يكفيهم آلامهم الجسدية، لا تتعاملوا مهم كأنهم نكرة؛ فكلٌّ عرضة لأن يكون مكانهم دون أن يدري، لا تستهينوا بالفيروس فهو مؤلم جسديًّا ونفسيًّا ومعنويًّا، فالتزامكم بيوتكم أسلم لكم".
وتختم: "من الطبيعي ألا يخالط مريض كورونا لتجنب العدوى، ولكن دون تضخيم الأمور وتصويره على أنه "منبوذ"، أو إلصاق الوصمة به، فكل إنسان عرضة للإصابة".