فلسطين أون لاين

صاحبة أطول فترة خطوبة تُزفّ عروسًا

بـ18 سنة من الانتظار.. جنان تتربَّع على "عرش الوفاء"

...
نابلس المحتلة- غزة/ يحيى اليعقوبي:

فتحت أبواب السجن، تحرّر عبد الكريم مخضر من أغلاله وانتهت محكوميته، يخطو بخطوات قليلة للأمام نحو الهواء، تحت السماء بلا قبضان ولا شباك وسجون، يلتفت بنظراته إليها؛ هنا.. هوت دمعة من عينَيْ "جنان"، شهقت، زفرت، كتمت صرخة سرعان ما دوى صداها في أعماقها وسارعت خُطاها نحوه بعدما سمعت نداء قلبه، فكان أول عناق بعد 18 سنة من "الغياب القسري"؛ لكنَّ "الصدمة موجعة".

تعيش في غمرة الذهول، تحاول تصديق أنها غدت تراه خارج الأسر، وأخيرًا رست بأشواقها وحنينها على ضفاف قلبه، استمرَّت دموعها بالتساقط تُلقي بوابل من اللعنات على من أبعد القلبين كل في جهة.

الحقيقة مرة هُنا؛ لم تعد جنان تلك العروس التي خطبها عبد الكريم مخضر بعمر 26 عاما بل طرقت باب الـ44 من عمرها، ولم يعُد هو ذاك الشاب في عهده الثلاثيني الأول وهو يقترب من وداع الأربعينات، فبعد عام واحد سيطرق الخمسين عامًا؛ تغيرت ملامحهما كثيرًا، لكن في نظرهما العمر تجمد عند اللحظة التي أسر الاحتلال عبد الكريم فيها.

خطوبة واعتقال..

عام 2002 كانت جنان سمارة تعمل باحثة ميدانية بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" بعدما أنهت دراسة تخصص "الخدمة الاجتماعية"، بينما عبد الكريم الذي كان يدرس إدارة الأعمال بنابلس، أمضى سنتين في سجون الاحتلال، وظل بعدهما مطاردًا.

"كنت أعلم بذلك حينما تقدم لخطبتي، فوافقت على الارتباط به؛ وهذا شرف لي الارتباط بإنسان وطني".. تستهلّ جنان حديثها بعد نحو 10 أيام من ترتيب المواعيد التي فشلت عدة مرات نتيجة مراسم استقبال المهنئين بتحرر "عبد الكريم بعد 18 سنة من الاعتقال"، إلى أن انهت أخيرًا مراسم الفرح والزواج، لتروي القصة لصحيفة "فلسطين".

"سأقول شيئًا: ليس سِرًّا، لكن فترة الخطوبة التي استمرت ثلاثة أشهر قبل أسره كانت من أجمل أيام حياتي، كنا نلتقي بعد امتحاناته الجامعية وانتهاء عملي، نذهب إلى بيت أهله، 90 يومًا أمضيناها سويًا بذكريات ظلت محفورةً في تلابيب الذاكرة؛ حقا كانت "أحلى أيامي".. الإبحار إلى تلك المدة يفتح جرح قلبها من جديد.

يوم فارق.. جرس الخط الهاتفي الأرضي لعائلة جنان يرن، يتصل عبد الكريم ليخبر خطيبته أنه بمدينة نابلس؛ حتى جن جنونها: "أنت مطارد .. شو وداك هناك"..

- بدي أعمل معاملة بنك .. أجيب دفتر شيكات ..

- شو أجيبلك هدية معي؟

الثانية عشرة ظهرًا؛ الهاتف رنَّ مرة أخرى، عبد الكريم على الخط: "هي السواق بده يطلع، هيني جاي عليك"، مرت ساعة، وساعتان، وأكثر ولم يصل، حينها ساور جنان الشكوك، تحط رحال ذكرياتها عبر الخط الهاتفي لذلك الموقف: "لأنه يسكن في قرية عمورية جنوب نابلس، وكوني أسكن ببلدة برقين، سلك بين الجبال، لتفادي حواجز الاحتلال، ولم يدرِ أن حاجزًا طيارًا وضعه جيش الاحتلال كان يتربص به، وكان حفل الخطوبة في يونيو/ حزيران 2002 واعتقل في سبتمبر/ أيلول بنفس العام".

ما أجمل الذكريات وهي تتسربل من صوتها بثوب الحنين؛ "مراسم الخطبة كانت بين الأهل، بنينا بيتا صغيرا، خطّطنا فيه كي نعمر البيت، حتى نتزوج بعد عام لكن المدة طالت إلى 18 سنة".

الزيارة الأولى..

"كانت لديّ قناعة أنه إنسان مطارد، وأنه سينال حكمًا أكبر من ذلك، مرت 11 جلسة أي قرابة عام وصدر الحكم بسجنه 18 سنة".

تستعد جنان لزيارة عبد الكريم لأول مرة بعد سنة ونصف من الاعتقال، قطعت مسافة طويلة، وتجاوزت بوابات السجن، لأول مرة يفصلهم عازل زجاجي، لم يشَأْ أن تخوض غمار الطريق الطويل معه فخيرها: "جنان انحكمت زي ما انت شايفة وعارفة .. الك الخيار .. حابة تستمري أو لا!، بجوز ما بتتحملي؟"؛ "بدك جوابي.. !؟" جنان أمام كلمات مفصلية حبست أنفاس خطيبها: "بالنسبة اللي الحكم حكم رب العالمين.. أنت بتفكر حالك حتقضي 18 سنة، معقول، أبصر شو يصير بالدنيا"، وهكذا أعلنت استمرار الارتباط "مهما كان الثمن ومدة الانتظار".

عبَرت جنان تلك المراحل، يوم يطوي يومًا وعام يسلم أملًا جديدًا للعام الثاني، والثالث ويتجدد الأمل في الرابع، والعاشر تمر لحظات، فرح، حزن، أمل، انتظار، كومة أحاسيس تبعثرت عبر توالي الأيام، مضت كل لحظة من تلك المدة وسرقت منها لحظة يجب أن يعيشها معا "تتغير الدنيا وتتبدل حولهم"، تمضي متقدمة في السن ولا زالت في عز شبابها، فعمرهم توقف عند مراسم الخطوبة التي لم تتم، في كل مرة يزيد ارتباطهما أكثر.

أمل يتجدد..

تعيد تقليب شريط الذكريات تراجع صفحاته المنسية نافضة عنها غبار الزمن: "كنت في كل عام أتأمل أن يخرج، ولكن عهدي معه كان أن يستمر الارتباط، على أمل أن يكون كل والثانية هناك إفراجات، وهكذا توالت الأيام والأعوام، حتى جاءت صفقة وفاء الأحرار عام 2011م (...)، فتوقعت خروجه".

تنبش ذكريات مجلد الماضي المرير: "تصارعت مع أفكاري التائهة: هل سيخرج أم لا؟! وكلفت زميلا بالبحث عن الأسماء، ووضع نقطة النهاية في عملية البحث: "خلص ملهوش اسم"، يومها نزلت كلماته مثل الصاعقة عليّ".

وبين الماضي وحنين الأمس، تجرّها الذكريات إلى افتكار ومضات عابرة: "وفاة والدة عبد الكريم (حماتها) كانت قاسية علي، يومها مرضت ودخلت المشفى، وأخفيت أمر المرض على عبد الكريم، لكنه علم من شخص آخر، يومها حزن وعاتبني قائلا:" ما تخبي علي هاي الاشياء بحبش اسمعها من حد غيرك" (...) في لحظة وداعها، كل الناس كانت تحمل نعشها تواريها الثري، مرت لحظات صعبة علي افتقدته بها".

الجو مغبرّ..

أحد أصعب الزيارات: "أتدري؟!".. تراجع ذاكرتها: "كان صعب علينا أن نشتري هاتفا محمولا مهربا بقيمة 50 ألف شيقل، فاشتركنا بهاتف بين مجموعة أسرى وكان قيمة الاشتراك 13 ألف شيقل".

ضحكة عابرة تتسلل إلى صوتها، بعفوية: "يا خسارة قديش حوشنا رواتبنا لكن الهاتف انمسك".

زيارة أخرى "الجو كان مغبرًا في صحراء النقب، فتعثر سير الحافلة ومكثنا في الطريق ساعة لم نستطع التحرك، لم نعد نرى شيئا، يومها وصلنا بشق الأنفس السجن، فخرج كل أسير يلف رأسه بقطعة قماش، فالغبار ملأ السجن أيضا، انتظرته، حينما جاء كل الأسرى إلا هو، وأخبرني أحدهم أن عبد الكريم كان من ضمن الأسرى الذين رفضوا ارتداء زي برتقالي أراد الاحتلال فرضه، يشبه ملابس "الإعدام"، ثم جاء أحد السجانين يستفزني ويراقب ردة فعلي: "خطيبك بدهوش يشوفك!"، لكني كنت أعلم ما جرى، فضحكت مستهزئة به: وأنا ما بدي أزوره".

"الزيارة مثل ماء تروي عطش الشوق، لكن 45 دقيقة كلّ مرة، وثماني زيارات في السنة، أي أنّني التقيت بنصفي الآخر 15 يومًا خلال 18 سنة؛ فتخيّل حجم الحرمان، الألم، المعاناة، قسوة السجان، والظلم".

التقاء الحبيبين..

قبل الإفراج بأسبوعين؛ خبر من داخل الأسر في سجن "جلبوع" ورد إلى مسامع جنان؛ بتعرض الأسرى للضرب ومن بينهم الأسير عبد الكريم ونقله إلى سجن "مجدو"، الخبر كاد أن ينسف ترتيبات الفرح التي أعدتها، "كل شيء كان متوقعا من هذا المحتل، بأن يحوله للاعتقال الإداري، لكني خفت أن يكون قد تعرض للاعتداء، تخوفت أن يخرجوه ولديه إعاقة".

أخيرًا تزفِرُ كل سنوات الانتظار: "كل إنسان يحب الاستقرار، بعدما تمضي 18 سنة في حالة حزن، كنت أنتظر لحظة الفرح؛ والحمد لله الذي منَّ علينا باللقاء والزواج، هو أكثر من مسمى استقرار، هو أمان تستطيع القول فالسعادة لا تعطى بمسمى واحد".

أجمل لحظة فرح مرت عليها حينما فتحت أبواب السجن، يبتسم صوتها: "في لحظة لقاء عفوية، انطلقت بلا ترتيب، وليس مدروسا نحوه وعانقته، لكني وفجأة شعرت بدوار أصابني، التفت لأخي لأمسكه، إلا أني لم أجده، لا أدري هل هي من الفرحة بعد هذا العمر الذي أراه فيه وجهًا لوجه".

"ترتيب الفرح جهزت له قبل الإفراج عن عبد الكريم بشهرين، كما أني وسعت البيت الذي خصصناه لنا في فترة الخطوبة، واشتريت كل الأثاث والأدوات الكهربائية، حتى ملابسه، كلها جاهزة، باستثناء بدلة الزفاف، فارتأيت أن يخرج ويختارها بنفس، فذهبنا معًا، وعشت لحظات سعيدة، أقسمت على نفسي ألا أبكي رغم ما حدث معنا".. ضحك صوته من أعماقها: "ما قصرت بحق حالي بيوم فرحي.. أبسطت حالي".

من طرائف الأمور أنه مر عدة أيام على زفاف عبد الكريم من جنان، إلا أنه أخطأ عدة مرات فالدارج على لسانه في حديثه مع الآخرين "خطيبتي"، تضحك مرة أخرى مسحت بها بعض الأحزان: "أحدهم سمعه عبر الهاتف يردّد اسمي بخطيبتي لعدة مرات، فنهره: "يا زلمة ما تحكي خطيبتك هاي زوجتك"، فضحك عبد الكريم: السجن عودني عليها.. ما تواخذني من الصعب أنساها".

عُزفت أهازيج الفرح، وانطلق عبد الكريم في موكب، وزفت جنان عروسًا وارتدت البدلة "البيضاء"، بعرس وطني، روى حكاية وفاء تجلى واقعًا في حياة جنان.