لا أعلم من أين يمكن أن أبتدي في كتابة هذه المقالة التي تنزف دماً ودموعا بل وتنزف آلاماً وهي تصف حال غزة المكلومة التي ما زالت تُذبح على مقصلة الانقسام البغيض والاستفراد السلطوي بها والتنكّر لحقوقها وإدارة الظهر لأهلها!
غزة الجريحة التي تستيقظ في كل يوم على خبر يؤلمها وطعنة توجعها؛ فإنها تستيقظ اليوم على تهديد ووعيد ولكنه من نوع فريد، إنه تهديد من الرئيس محمود عباس بأنه سيتخذ خطوات غير مسبوقة تجاهها، ويكأنه لم يتخذ خطوات مسبقة بحقها، ويكأنه لم يقطع أرزاق أهلها ولا كهربائها ولا قوت عيالها ولا رواتب موظفيها ولا مخصصات شهدائها وجرحاها وأسراها.
هوّن عليك يا سيادة الرئيس، فإذا أردت أن تذبح غزة من جديد؛ فسن سكينتك واسلل سيفك وتَجَهّز، ولا تنس أن تجعل يدك اليمنى سريعة في تمرير سكينتك على رقبتها حتى لا تشعر بالآلام كما في كل مرة، يعجبك هذا الوصف أو لا يعجبك فليس هو مربط الفرس، المهم هو التخلص منها ووأدها في مقتل وبالسرعة الممكنة حتى لا تسمع صوتها.
أهكذا طُلب منك؟ رابين ومن لفّ لفيفه من الإسرائيليين والعبرانيين ومن سار على دربهم؛ كانوا يحلمون بأن يستيقظوا في الصباح ويجدوا غزة قد ابتلعها البحر ومات كل من فيها، ولكن ماذا كانت النتيجة يا سيادة الرئيس؟ لقد ماتوا جميعا وأصبحت عظامهم مكاحل، بينما بقيت غزة شامخة في وجه الظالمين، وظل أهلها أعزاء ثائرون، وباتت هي كما هي "حُرّة ولا تأكل بثدييها".
صحيح أنك نلت من غزة بعض النيل، ونجحت في رسم البؤس على وجه فقرائها وقطعت رواتب موظفيها وخصمت من مخصصاتهم، ونجحت كذلك في فرض الخوف والجوع ونقص الأموال والثمرات؛ لكنك حتما لن تنجح في تركيعها ولا تسجيدها.
اختلاف الرؤى السياسية ينبغي ألا يكون سلاحا على رقاب الضعفاء والفقراء والموظفين، فالاختلاف لا يُفسد للود قضية، وإن المشروعية التي تتغنى بها لا يمكن أن تكون على حساب الناس وآلامهم وحاجاتهم، اجلسوا في غرف محكمة وأغلقوا على أنفسكم البوابات، ثم اخرجوا لنا بحلول عملية ومريحة لشعب غزة المكلوم، ولكن لا تذبحوا غزة بذريعة واهية لا تسمن ولا تغني من جوع.
أما إذا كان شعب غزة "رخيصاً" في نظرك؛ فإن هذا سلوك مرفوض وتفكير عقيم وتوجه لا يليق، بل ولا يمكن أن يحمل ذلك رئيس تجاه شعبه الذي يتفطر قلبه ألما جارحا ومعاناة قاسية.
هلا تخبرنا يا سيادة الرئيس؛ من كان يقف إلى جانبك عندما كنت تصيغ عبارات الانتقام والضغينة تجاه شعب غزة؟ ومن هو يا تُرى الخنّاس الذي يُوَسوِس في أُذنيك بالهجوم مجددا على غزة وبخطواتك غير المسبوقة! هلا أخبرتنا؟
مهما كانت بعض ألفاظك متقنة وبارعة في استفزاز شعب غزة الذي ما زال ينتظ، فإنك في نهاية المطاف ستكتشف أنه من العسير عليك أن تتغلب على شعب كابد الحصار، وصارع الصبر، وقاتل الموت، وكسر كل نظريات العربدة.
شعب غزة شعب طاهر وأبيّ، ويحب الحياة يا سيادة الرئيس، والأولى أن تعود له بالعقل والمنطق لا بالتهديد والوعيد، فالأعمار تمر والسنون تجري وأنت تجاوزت الثمانين والتاريخ لا يرحم.