ارتخى جسده المتعب تحت ظلال شجرة هاربًا من شمس الظهيرة، يسترق بعضًا من الوقت، هي الأخرى فردت جناحيها حاجبة الخيوط الصفراء عنه تظلّه تحت ظلها الوحيد هناك، بعدما أمضى تسع ساعات عمل متواصلة يخدم فيها مصابي فيروس "كورونا" المحجورين بمدرسة "إحسان الأغا" المجاورة لمستشفى غزة الأوروبي.
ما لبث حتى قطع صوت إسعاف قادم، هذا الارتخاء اللحظي، على الفور حمل عامل النظافة يوسف داود "جرة التعقيم"، نزلت الحالة المصابة من سيارة الإسعاف، ليدخل يرش "الكلور" في كل أجزاء الإسعاف من الداخل والخارج، غير آبهٍ بإمكانية نفاد الفيروس غير المرئي حتى بداخل ملابس الوقاية التي يرتديها، ثم سار خلف خطوات المصاب يرش الأرض خلفه، يتقفّى أثر الفيروس في كل مكان ولج إليه المصاب، هذا المشهد يتكرر معه يوميًّا عدة مرات وعلى مدار 21 يوما أمضى في العمل.
خدمة أبناء شعبنا
"ربما حاجتي المادية لتجهيز مصاريف الدراسة كانت أحد الأسباب التي دفعتني للعمل وكذلك عيشنا في الإيجار، إلا أن السبب الأهم هو حبي لخدمة أبناء شعبي هو السبب الأهم والدافع الرئيس لذلك".. يقول يوسف داود عبر الهاتف لصحيفة "فلسطين".
من المهام الرئيسة الموكلة إلى عمال النظافة ومن بينهم هذا الشاب، توزيع الطعام، وتلبية متطلبات المحجورين المصابين، وتعقيم الحالات المصابة الداخلة أو الخارجة من المدرسة أو المستشفى حسب تواجد عامل النظافة.
بابتسامة "رضى"، لا يخفي خوفه خلال عمله بلهجة عامية: "كنت أمسك جرة التعقيم، أرشّ الدرج، أي مكان يدخل إليه المريض أتتبعه (...) كنت خايف خاصة لما تدخل سيارة الاسعاف لكن وكلت الأمور لله".
فسحة فرح
مع توافد حالات الإصابة؛ إلى المدرسة زادت طلبات المصابين وتعددت احتياجاتهم، وألقيت مسؤولية إضافية على عاتق داود ورفاقه العمال، لكن ومن بين هذه الانشغالات خلق فسحة من فرح، كانت بشكل مختلف، يضحك: "طلبت من أمي تجهيز قالب "جاتوه" مع اقتراب يوم ميلاد صديقي في العمل، واحتفلنا به بمشاركة جميع المحجورين في المدرسة، واستطعنا كسر الحواجز بيننا وخلقنا أجواء من الفرح، واللمة الطيبة".
أما هنا فاحتار ماذا يفعل: "بينما كنت أوزع وجبات الطعام على المحجورين، سقطت إحداهن أرضا وأغمي عليها، شعرت بالخوف أو أن الفيروس قد خطف روحها، لم أعرف ماذا أفعل، لكن على الفور استدعيت الطاقم الطبي وجرى نقلها إلى المشفى، والتقطت انفاسها وتماثلت للشفاء فيما بعد".
"كعامل نظافة فإن علينا مسؤولية كبيرة، فنحن نعمل على مدار الساعة، فنحن المسؤولون عن إجراءات النظافة في مراكز حجر المصابين، ومسؤوليتنا قتل الفيروس".. ورغم دوره الكبير إلا أنه أشبه بالذي يسير في حقل خطر، فقد أعلنت الشركة التي يعمل ضمن أفرادها، عن إصابة عشرة عمال نظافة بفيروس كورونا غالبيتهم يعملون بمستشفى غزة الأوروبي.
انتشرت ليوسف صورة وهو يرتخي تحت ظلال شجرة، وتفاعل معها رواد مواقع التواصل الاجتماعي، يترك تعليقا هنا، بعفوية طلقة: "كنت شغال من الفجر، وكنت تعبان كتير، ما لقيتش مكان اقعد تحت غير الشجرة، ارتحت شوي ورجعت أكمل شغل".
فترة عمل جديدة
مع توارد أسماء المصابين من عمال النظافة إلى مسامعهم، ومنهم بعض أصدقائه، أصبحت لديه هواجس أن يكون الفيروس قد طاله، لذلك مرّ وقت انتظار نتيجة الفحص صعبًا، فترة عصيبة لم ينسها: "كنت خائفا جدا أن تكون النتيجة (موجبة)، كذلك أمي كانت تنتظر النتيجة على أحر من الجمر، إلا أنها جاءت (سلبية) وهذا ما قلل مدة الحجر، وما ساعدني للعودة مرة أخرى للعمل".
أنهى داود، فترة العمل والحجر، وما إن مضى أسبوع على عودته لمنزله، يستعد للعودة لعمل وحجر آخر الاثنين القادم، "فهل كان السبب ماديا أم بهدف خدمة المصابين؟".. يجيب: "صحيح أني أدرس دبلوم وسائط متعددة، وأني لجأت لهذا العمل لدفع الرسوم الجامعية، وكذلك إعالة أسرتي، لكني أحببت العودة للعمل حتى أخدم الناس، ومن شدة حبي لذلك رفضت أخذ فترة راحة لمدة 21 يوما".
الشيء الذي رسم الرضا على وجه داود، وجعله يعود ثانية للعمل في خدمة المحجورين، هو تقدير الناس لعمله، والنظر إليه كـ "صانع جمال" ونظرة احترامي مجتمعي، هذه السهام انغرست في قلبه، وأوقدت شعلة العمل لديه، وحفزته أكثر وكذلك أعادته لمكان خطر، ربما غيره يهرب منه، ولا يتمنى العودة إليه.