رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ألمح إلى إمكانِ تنفيذ صفقة تبادل مع حركة حماس وذلك في مناسبات متعددة، وقد ذكر خلال كلمة له في مراسم إحياء ذكرى قتلى الجيش في عملية الجرف الصامد التي أطلقت عليها كتائب القسام (العصف المأكول) من خلال حديثه بأنه يواصل العمل من أجل استعادة الجنود، وذلك في حال توفر نافذة لذلك، الحديث لم يتوقف في مناسبات أخرى؛ ففي عام 2016 كان قد أفصح عن أن هناك جهودًا لا تتوقف بشأن قضية الجنود المفقودين في غزة، وأنه قد تلقى تطورًا مهمًّا بهذا الصدد، ومؤخرًا كان قد عقد جلسة خاصة للجنة الوزارية لمناقشة آخر تطورات الاتصالات بشأن صفقة تبادل الأسرى، وقد منعت الرقابة العسكرية وسائل الإعلام الإسرائيلية من النشر في هذا الشأن، وجاءت الجلسة عقب المبادرة الإنسانية التي أطلقها رئيس الحركة في القطاع يحيى السنوار.
هذه التصريحات للقيادة الإسرائيلية والجلسات التي عقدت سواء كانت سرية لم يكشف عنها، أو علنية فإنها تثبت بأن “إسرائيل” يمكن أن تستجيب في لحظة ما وترضخ لمطالب المقاومة، لكنها تحاول اقتناص فرصة مناسبة لإنجاز الملف، فهي لا تتوقف عن إرسال الوسطاء لمحاولة إقناع حركة حماس بالإفراج عن الجنود الأسرى، وفي ذات الوقت تخشى من دفع ثمن كبير من وراء هذه الصفقة، لذلك فإن سقف الاستجابة لشروط المقاومة لا يزال منخفضًا حتى الآن، فما زالت تراهن على عامل الوقت، وفي اعتقادها أن قيادة حماس يمكن أن تتنازل تدريجيًّا مع مرور الوقت وأنها ربما تغير من شروطها وتقبل بعروض أقل مما قدم، هذا من جانب.
ومن جانب آخر فإن “إسرائيل” لم تفقد الأمل بعد فعلى الرغم من إبقاء الباب مفتوحًا لمفاوضات التبادل التي تنشط بين الحين والآخر دون أن تفضي لنتائج إلى الآن، إلا أنها لا تغفل إمكان إنهاء هذا الملف دون ثمن، فهي تسير بخطين متوازيين، فالمفاوضات فاعلة والجهد الأمني ما زال فاعلًا، بمعنى أن المنظومة الأمنية الإسرائيلية تبذل جهودًا مهولة للبحث عن مكان الجنود، عبر تعقب الاتصالات، واختراق الأجهزة، ونشاط العملاء، ومتابعة كوادر ونشطاء المقاومة، علها تصل لضالتها في الكشف عنهم، وذلك لوضع خطط لتحريرهم، أو حتى الخلاص منهم من خلال قصف جوي تدعي فيه “إسرائيل” أنها استهدفت نشاطًا أو كادرًا للمقاومة دون أن تعرف أن المكان يوجد فيه الأسرى الجنود.
لكن وباعتقادي فإن النشاط الاستخباري سواء بتعقب آلاف الاتصالات في غزة أو إبقاء طائرات الاستطلاع للبحث، أو تكثيف نشاط العملاء على الأرض، إضافة للمحاولات اليائسة لاختراق صفوف المقاومة، فإن ذلك لم يضَع الضباط الإسرائيليين على سكة الوصول للمعلومات، وهذا بدوره يؤكد أن “إسرائيل” فشلت أمنيًّا واستخباراتيًّا في هذه (المعركة الخفية)، في حين نجحت منظومة القسام الأمنية في تشفير المعلومات، وإغلاق المجال الجوي أمام الطائرات لتعجز عن التقاط أي حركة يمكن أن تقود للجنود، واستطاعت تضليل العملاء، وإحاطة الوحدة المختصة بالملف ضمن سور أمني واقٍ كأنه فولاذ لا يمكن اختراقه.
التفوق الأمني لم يكن الضربة الوحيدة التي تتلقفها القيادة الإسرائيلية، ففي 5 فبراير من عام 2020 كشف الناطق باسم كتائب القسام عن إصابة عدد من الجنود الأسرى لدى المقاومة في غزة خلال قصف إسرائيلي في عدوان مايو 2019، وهذا بدوره شكل صدمة في الأوساط الصهيونية وخصوصًا المستويين الأمني والسياسي، إضافة لعائلات الجنود، فالرسالة كانت متقنة للغاية، لتبعث رسائل مختلفة، منها أن هناك جنودًا أحياء ومن ثم فضحت نتنياهو أمام وسائل الإعلام، وفرضت عليه اتخاذ خطوات عملية أمام عائلات الجنود، وقيدت في ذات الوقت حركة العدو عن التهور في أي قصف جوي، وعليه فإن الجمهور الإسرائيلي لن يرحم قيادته إذا تكررت إصابتهم.
لذلك فإن هامش المناورة أمام القسام يتسع في كل لحظة، وحتى الآن إدارة الملف يمكن اعتبارها إدارة حكيمة يضطلع بها أشخاص مدربون ومحترفون سجلوا نقاطًا نوعية أربكت العدو، فلديهم الحلم والصبر لتحمل مشاق طويلة سياسيًّا وأمنيًّا وميدانيًّا، ودرايتهم عالية بكل الوسائل الصهيونية، فتجربة الاحتفاظ بالجندي الأسير جلعاد شاليط وإبرام صفقة مشرفة كانت دليلًا آخر على احترافية كتائب القسام، وفي ذات الوقت فإن نافذة الفرص التي يبحث عنها نتنياهو تضيق يومًا بعد آخر، الأمر الذي ينبئ بأن “إسرائيل” ستحبو على ركبتيها صاغرة قريبًا في هذا الملف.