وعكة صحية نالت من جسده؛ بعد أيام عمل مضنية تتبع فيها خريطة الوباء، ولاحق فيروس كورونا في كل زاوية بمحافظة شمال القطاع، كما الذي يتجول في حقل ألغام، أمام عدو غير مرئي، أربعة أيام متواصلة استمرت الوعكة ولم يتعاف النقيب أنور أبو القرع رئيس قسم الإدارة بالمباحث العامة في محافظة الشمال، حتى فقد حاسة الشم في اليوم الخامس، فكانت علامة واضحة على حتمية إصابته بفيروس كورونا.
هذا الفيروس لا يفرق بين الناس، يطال كل شيء يقترب من مسافة الخطر، "هل بالفعل أصابني؟" ظل سؤالًا محيرًا، إلى أن أبلغ مديره بالأمر، وجاءت الطواقم الطبية لأخذ مسحة فحص وألزم نفسه بالحجر المنزلي إلى حين خروج النتيجة.
مساء 3 أيلول (سبتمبر) 2020م: حالات الإصابة في ازدياد بالخارج، منطقة شمال القطاع مصنفة "بقعة حمراء"؛ على أحر من الجمر ينتظر أبو القرع النتيجة، فهو متحمس للعودة إلى العمل ونيل شرف مقارعة الفيروس، اتصال هاتفي من زميله أخرجه من الانتظار، رجت يده واهتز قلبه، "هل يريد إبلاغي بالعودة للعمل أم النتيجة سلبية؟" سؤال خاطف مر عليه بلمح البصر، قبل أن يسمع صوت المتصل عبر الطرف الآخر بعد أن مهد الأمر تدريجًا ووصل للنقطة الفاصلة: "يا للأسف يا صديقي، نتيجة فصحك إيجابية (مصاب)"، للوهلة الأولى لم يصدق الأمر: "شكلك بتمزح؟!"، زميله يحسم الأمر: "الأمر جدي ولا يوجد به مزاح".
ضريبة العمل
"حينها شعرت بالتوتر والقلق، وبعد استدراك الموقف علمت أن ما أصابني هو قضاء وقدر من الله، وضريبة العمل لخدمة الوطن والمواطن، واحتسبت ذلك عند الله، وتذكرت قول الله (تعالى): "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" هكذا تلقى الصدمة الأولى كما يروي أبو القرع لصحيفة "فلسطين".
لكن المشهد لم يكتمل بعد: "بعد إخبار الأهل وزوجتي بالنتيجة تلقت ذلك بالصبر، وكانت تكثر من قول "لاحول ولا قوة إلا بالله"، ولكن دموعها غلبت صبرها، وأما أبنائي فأجهشوا بالبكاء، علمًا أنني أخفيت خبر إصابتي عن والدتي، لأنها لا تحتمل ذلك لكونها مريضة".
خلال تلك الأيام أشغل وقته بالدعاء والتضرع إلى الله (عز وجل) وممارسة النشاط الرياضي وتلاوة القرآن، في تلك الأثناء كانت ترده اتصالات الأهل والأصدقاء والزملاء للاطمئنان على صحته، لكنه ظل على رأس عمله: "خلال هذه المدة كنت على تواصل مستمر مع إدارتي والأقسام الإدارية والجغرافية لمتابعة تطبيق الإجراءات المتخذة مع جائحة كورونا يوميًّا".
ساعة ترقب
السادس من أيلول (سبتمبر) 2020م: اقتربت نتيجة فحص عينات زوجته وأطفاله، في ساعة ترقب، تلقى اتصالًا من الزميل نفسه الذي أبلغه بنتيجته، وهو الرائد حسين الحواجري، كانت لحظة صعبة مرت قاسية عليه، يستذكرها بمرارة: "أبلغني بأن نتيجة كل من زوجتي وأبنائي: عاصم وفتحي ونبيل (إيجابية) أي أنهم مصابون بفيروس كورونا، أما نتيجة كل من ابنتي سندس وابني محمد فـ(سلبية)".
"كانت لحظة صعبة جدًّا وصدمة كبيرة، وما أحزنني هو علمي أن أسرتي ستخرج للحجر الصحي ونترك طفلين من أبنائي في البيت (غير مصابين)"، كانت العائلة أمام فراق مؤقت أول مرة في حياتها.
"ما طبق على الناس طبق على رئيس قسم المباحث كذلك"، يدلل: "استقبلت أوامر الحجر باتصال من وزارة الداخلية، وأخبروني خلاله بأني سأنقل للحجر الصحي (...) وعندها أخبرتهم بأن أربعة من أفراد أسرتي مصابون أبلغوني بانتظار تعليمات أخرى، لكون الأمر أصبح يتعلق بأسرة لا شخص، وبعد لحظات تواصلت مع دكتور من وزارة الصحة، وأخبرني بأني سأنقل مع عائلتي للحجر الصحي في دير البلح، لكونه مخصصًا للعائلات".
"حاولت جاهدًا إقناع وزارة الصحة بالإبقاء على الحجر المنزلي مع تعهدنا بالالتزام التام، فرفض الأمر لكونه يتعارض مع إجراءات السلامة والوقاية المتخذة من وزارة الصحة، وأمهلونا ساعة لتجهيز أنفسنا تمهيدًا لنقلنا للحجر، فتواصلت مع مديري في العمل وأطلعته على آخر المستجدات، فطلب مني التوكل على الله (عز وجل) وطمئنني أن المكان جيد ومناسب للعائلات"، وهكذا انتهى الأمر بنقله للحجر.
حالة طوارئ
منذ إعلان حالة الطوارئ تركز عمله على إعداد التقارير الخاصة بجائحة كورونا، وتوثيق مهام الأقسام الجغرافية والإدارية، وتنظيم عقد الاجتماعات الطارئة الخاصة بالمباحث، واجتماعات لجنة الطوارئ العليا لمواجهة الجائحة وحصر الوباء في محافظة الشمال، والقيام بعدة جولات ميدانية إلى أقسام مباحث الشمال لمتابعة تطبيق تعليمات وزارة الداخلية بفرض حظر التجوال داخل منطقة الاختصاص.
تخللها لقاءات مع أصحاب المولات والمخابز لتوفير الحاجات اليومية للمواطن، ومنع الاستغلال والاحتكار مع الجائحة، كانت الجولات الميدانية يومية وعلى مدار الساعة منذ إعلان حالة الطوارئ.
"من أصعب ما واجهته خلال عملي هو الذهاب إلى العمل والإياب منه مشيًا على القدمين مع ارتداء الكمامة تحت أشعة الشمس الحارقة، مع منع التجوال، علمًا بأننا نعمل بنظام (12) ساعة متواصلة، ما يبعدنا عن الأهل، مع حاجتهم لنا في هذه الظروف"، ورغم ذلك تقبل كل ما أصابه برضا وفخر بنفسه.
كان خروجهم من البيت وترك اثنين من فلذات أكبادهم أمرًا صعبًا جدًّا، خاصة مع ذهابهم إلى مكان مجهول، تقول زوجته: "ما وتر الأمر هو حضور الإسعاف لنقلنا إلى مكان الحجر ولحظة فراق الأهل والأحبة، وعند وصولنا إلى مكان الحجر الصحي في كرافانات دير البلح، وهي تقع في منطقة (أراضي المحررات)، ورغم توافر كل الخدمات اللازمة للمكوث في المكان طوال مدة الحجر أثر الأمر علينا نفسيًّا، لوجود حاجز شبكي أمام الكرافانات التي كنا فيها، ووجود بوابة مغلقة بقفل من الخارج".
ممارسة تمارين رياضية وألعاب هادفة وتلاوة وحفظ آيات من القرآن الكريم ومتابعة واجباتهم المدرسية عبر (الواتس) لإشغال وقتهم والتخفيف عنهم خلال مدة الحجر، بهذا حاولت الأم التغلب على تشتت العائلة، فكانت وسائل التواصل الاجتماعي أداة للربط بينهم طوال مدة الحجر التي استمرت 15 يومًا.