فلسطين أون لاين

في غزة.. لقمة العيش مغمسةٌ بالحسرة تحملها أكتاف خريجين

...
غزة - يحيى اليعقوبي

لا يعرفون فيها إلا قطرات تبلّلهم ليس من المطر أو الغوص بين الأمواج في يوم ترفيهي بل هي قطرات انسابت من أجسادهم من شدة التعب، يكابدون مشاق الحياة، ويغمسون لقمة العيش على أكتافهم، ينقلون أثاث المنازل من بيت لآخر، هكذا هي الحياة صعبة بالنسبة لهم، ولكنهم يواجهون منعطفاتها القاسية، يخلدون إلى فراشهم في نهاية يومهم الشاق وهم قد كسبوا قوت يومهم من عرق جبينهم.

كانت حرارة الجو مرتفعة تشبه حرارة وحماس العمل الذي ارتفع في وجدان مجموعة من الشباب بينهم خريجون يعملون في نقل أثاث المنازل.

بهمةٍ عالية ينقلون الأثاث إلى عمارةٍ سكنية مكونة من عدة طوابق، يريدون الإسراع في إنجاز مهمتهم، قطرات العرق تتصبب من أجسادهم فالرطوبة مرتفعة رغم أن وقت الغروب قد حان، ومهمتهم الشاقة أوشكت على الانتهاء.

يوم شاق

هذه المهنة لا تفرق بين عامل وخريج، تقبل من يستطيع أن يتحمل الإرهاق والتعب فيها مقابل أجرة يومية لا تزيد على ثلاثين شيكلًا، يسدون بها رمق حياتهم، فمنهم متزوجون، ومنهم من يعيلون أسرهم.

وما إن انتهوا من رفع الأثاث حتى ذهب هؤلاء الشباب يبحثون عن الماء ليرويهم ويعيد لهم النشاط، يسندون ظهورهم إلى جدار حائط لينالوا قسطًا من الراحة، تسللت صحيفة "فلسطين" إليهم، كان أحد هؤلاء الشاب محمود عوض سمور 24 عامًا.

بعد أن التقط أنفاسه، "ماذا أقول؟" يتحدث سمور لـ"فلسطين" التي أخذت من وقته قليلًا: "لجأت إلى هذه المهنة لأني متزوج منذ فترة، ومهنتي الأساسية الطوبار ولكن البناء والإعمار متوقف بشكل شبه كامل، فاضطررت للعمل، أصعد إلى الطوابق وأتنقل بين الأبراج في رفع أثاث المنازل لأعيل أسرتي".

علامات الإرهاق بادية عليه وهو يتحدث عن شعوره بالفخر في عمله، ويواصل: "يجب أن يجد الإنسان ويعرق كي يعيش، فالوضع صعب على الجميع ونحن صابرون، بحثت عن أعمال في مخابز ومحلات ملابس ولكنهم يكتفون بعمالهم".

"ليش بأتعب هيك؟".. كان هذا السؤال الذي يدور في نفسه عندما يخلد إلى النوم بعد يومه الشاق، وفي نفس اللحظة يجيب على نفسه، بأن لديه زوجة وابن، فهذا هو الدافع الأساس لذلك"، فحاله كمتزوج (يضيف) مطلوب منه توفير لقمة العيش يختلف عن حال شابٍ أعزب مسؤولياته أقل.

هل أنت خريج؟.. كان السؤال موجهًا من صاحب مقاولات إلى محمد محسن (21 عامًا) خريج قسم علم النفس من جامعة الأقصى، ثم أتبع السؤال بسؤال آخر: "ايش بدك بالشغلانة"، لم يكن رده مفاجئًا: "بدي أعتمد على حالي"، لأنه حاول جاهدًا الحصول على عمل ولكن لم يستطع، بعد إجابته تلك أخبره صاحب العمل بأن يجرب نفسه في أول يوم ويرى إن كان يستطيع تحمل هذه المشاق أم لا.

العمل ليس عيبًا

وهكذا بدأت رحلة محسن في مهنته الشاقة، يتحدث عن ذلك لصحيفة "فلسطين": "اليوم تعودتُ على الجهد البدني، وأصبحت أتحمل مشاق العمل، ولكن الجهد النفسي صعب، كان لدي طموحات وسعيت لتحقيقها، فالعامل النفسي المحبط يعود بي إلى الخلف".

في جعبته كلامٌ كثير، يواصل وقطرات العرق تبلّل ملابسه بعد يوم عمل متعب: "في بعض الأعمال وخلال رمضان كنا نخرج للعمل فجرًا حتى ننتهي الساعة 11 ظهرًا، كان الأمر متعبًا، وبعد العودة إلى البيت ننام حتى المغرب كي نستطيع تجميع قوانا".

يستذكر تعبهم خلال العمل في شهر رمضان بأنه تحمل العمل والتعب لأجل لقمة العيش، ليعيش حياة كريمة، ما زال يتحدث عن شعوره بالإحباط نتيجة عدم وجود فرصة عمل: "من المفترض أن أتعامل مع الأطفال وكبار السن، في تقديم برامج علاج نفسي، ولكن صعوبة الواقع في قطاع غزة تدفعني للعمل في مجال غير تخصصي".

في عملهم خلال شهر رمضان الماضي كانوا يشعرون بالعطش والجوع (يتابع)، فرفع الأثاث المنزلي يحتاج إلى طاقة ومجهود كبير، تحت درجة حرارة عالية وأشعة شمس ملتهبة، وزاد: "نعمل دون راحة مقابل مبلغ لا يساهم بأن نعيش حياة كريمة، ولكن ذلك يجعلنا لا نمد أيدينا إلى الآخرين".

لم يكن محسن الخريج الوحيد، يذكر أنه خلال عملهم في شهر رمضان، تفاجأ بخريج في تكنولوجيا المعلومات حاصل على درجة الماجستير جاء للعمل معهم وهو صديق أحدهم، وعندما سألوه عن سبب رغبتهم في العمل أجابه بأنه لا يقبل أن يستمر أهله بإعالته، وأن العمل ليس عيبًا".

وبدأ محسن ورفاقه باختراق عالم أصحاب المصانع يشرحون لهم أوضاعهم وأحوالهم، وأن قضيتهم إنسانية، وأن عملهم هذا ليس له قيمة، وزاد: "قيمتك أن تتعرف على هؤلاء الناس الذين من الممكن أن يوصلوك لشيء معين تستطيع تحقيقه".

صمت قليلا، ثم تابع بنبرة حزن تزاحمت فيها الكلمات، قائلا: "عندما تخرجت قدمت شهاداتي إلى أغلب المؤسسات المتعلقة بتخصصي، "سنتصل بك" كانت هذه الجملة التي أسمعها منهم، كل سنة هناك آلاف الخريجين يريدون العمل والعيش والزواج لكن.. لا جدوى".

إلا أنه لا يخجل من عمله الحالي، فيستطرد: "كوني خريج وأعمل في رفع الأثاث أفضل من الجلوس، فإلى متى سأنتظر أن يبقى والدي يقدم لي مصروفًا، أريد الاعتماد على نفسي، وأعرف آلية العمل حتى لو كان متعبًا، وفي غزة كثر هم من يعملون في مهن غير تخصصاتهم كالسائقين لسد رمق العيش".