قائمة الموقع

سعود قنبر.. بكباش الجرافة انتزع المحتلُّ "روحًا منه"

2020-09-17T13:53:00+03:00

غرزت جرافة الاحتلال أسنانها الفولاذية في جدار منزله، وأحدثت ثقوبا كبيرة فيه.. اختل معها توازن البيت، واهتز قلبه وأحدثت الذكريات ضجيجا فيه أوقد غضبه داخله، وهو يرى حلمه يهدم أمام ناظريه. سحبت الجرافة -التي أُجبِر على إحضارها بنفسه- مخالبها عن البيت لمسافة قريبة ثم ضربته ضربة موجعة هذه المرة، فسلكت الشقوق طريقها فيه تفصل الجدران عن بعضها، والأعمدة عن القواعد.

رفعته ثانية لتغرزه هذه المرة في السقف، ثم في بقعة أخرى وأخرى، وفي كل مرة تضرب به أوصال المنزل كانت تشق قلب المقدسي سعود قنبر من "جبل المكبر"، وهو يرى المشهد أمام ناظريه. تجمعت الدموع حول عينه التي أبرقت ثم تسلل ماؤها على خديه يبكي بصمت؛ وهو يهدم بيته بنفسه قبل أيام، لا "يملك باليد حيلة"، هنا تجلت غطرسة الظلم على أصحاب الأرض، ودهست قوانين حقوق الإنسان التي كفلت حق الإنسان في العيش بأرضه.

مخالفة ومعاناة

قبل خمس سنوات بدأت رحلة قنبر ومعاناته مع جيش الاحتلال، بعدما وصلت عيونهم إلى البيت، ووضعت بلدية الاحتلال بالقدس مجهر "التهجير القسري" عليه، وأفلتت عناصر شرطته لتنغص حياته بالمخالفات وإخطارات الهدم، وكانت البداية بمخالفة قدرها 45 ألف شيقل.

"تقدمت للحصول على رخصة بناء وإجراءات قانونية في التنظيم، لكنني تفاجأت قبل شهر بقدوم شرطة الاحتلال إلى البيت بطريقة همجية، وأعطتني إنذارا بإخلاء البيت خلال 21 يوما" ومع ما يقوله قنبر فإنه سلك كل الطرق القانونية من خلال فريق دفاع، يبحث عن أي "ذرة عدل وإنصاف".

وقبل انتهاء المدة حصل ما لم يتوقعه: "جاؤوا بطريقة "همجية" مرة أخرى وهددوني أنهم سيهدمون البيت بالجرافة إذا لم أهدم البيت بنفسي، وسأدفع مبلغ 100 ألف شيكل إذا لم أهدم بيتي بيدي".

آوى البيت أحلام ثمانية أطفال له، أصغرهم لم يتجاوز ثلاث سنوات وأكبرهم لم يتخط 15 سنة، ورغم بساطته فإنه فرد جناحي السعادة فوق أحلام أفراد الأسرة، وأظلهم بالأمل، وربطهم بالمستقبل، في بيتهم الجديد، لكن الحال لم تدم طويلا ليجدوا ذلك الحلم تطاير مع حجارة المنزل المهدمة تحت أسنان الجرافة.

ليس من السهل استيعاب أن تهدم منزلك بنفسك، ذلك الحلم الذي يبنيه أي إنسان حجرا حجرا، ويسبق ذلك عشرات السنين من الادخار، وجمع المال، لكنه أسلوب "انتقام إسرائيلي"، يستخدمه الاحتلال ضد الفلسطينيين، ليدفعهم للرحيل عن مدينة القدس وضواحيها.

أصعب لحظة

يعتري صوته القادم من الخط الهاتف، حزن غريب ممزوج بالقهر لا يمكن وصفه: "هي أصعب لحظة، حينما جاءت الجرافة وكان إخوتي برفقتي، إني أراها وهي تقضم البيت وكأنها تخطف روحا من روحي، لم أتمالك نفسي فذهبت لمنعه رغم أني من استدعيته لهدم المنزل، إلا أن أخوتي أمسكوا بي".

يرثي تلك الحجارة والحزن بادٍ في صوته: "ما تحملتش المنظر، وانت بتفقد ولد من أولادك، أيقنت أن فقدان البيت مثل فقدان الابن".

" البيت أنا بنيته، شفت حياتي وسعادتي ومستقبلي فيه (...) لكن للأسف راحت كل أحلامي".. هذه المشاعر ليس لها أي اعتبار لدى الاحتلال، تلك الدموع لذة لقادته يستمتعون كلما سالت، وكلما نزف الدم الفلسطيني.

 

 

 

ظل الكباش يغرز مخالبه وأسنانه في أعمدة البيت، حتى ساواه بالأرض، وتناثرت حجارته، لتروي قصة مواطن جديد أجبره الاحتلال على هدم بيته بنفسه، وهذا حال مئات الفلسطينيين الذين يضعهم الاحتلال أمام خيارين أحلاهما مر فقط وهو "الهدم الذاتي" أو دفع تكلفة باهظة إن هدم الاحتلال البيت، في حين يدير العالم ظهره لأبناء الشعب الفلسطيني وهو يرى الجرائم تلو الجرائم، ولا أحد يناصره.

بلمح البصر تغير مسار حياته، وأصبح ذلك الإنسان الذي للتو كان يمتلك بيتا جميلا، مشردا لا مأوى له، عليه أن يعيش تحت سقف السماء، "اليوم حياتي اختلفت كليا أصبحت أسيرا لدى الآخرين، يستضيفونني وأولادي حتى أرى ماذا أفعل".

الغريب في الأمر، لدى قنبر، أن هذه المشاهد لا تحرك الضمير الإنساني "الصامت"، الذي ينظر بعين واحدة للأمور.

"البيت عزيز عليّ .. الشعور صعب والله"؛ تنهيدته هنا، قاله بصوت مسكون بالألم.

يقول: "أسلوب الاحتلال هدفه دفعك لمغادرة القدس، لا يريدون أن تبقى بأرضك، فكل يوم يفتعلون مصيبة، إما هدم بيتك، أو أسر أخيك أو توجيه مخالفات وضرائب لا حصر لها لتحقيق ذلك الهدف (...) في "جبل المكبر" سيكون هدم البيوت مثل السرطان، كل يوم سترى شخصا يهدم بيته بيده".

"احنا مش قادرين نوقف أمر الهدم".. وحتى لو أراد أي شخص منهم الذهاب نحو المسار الذي يحدده الاحتلال، فإنه يحتاج لعدة سنوات للحصول لإجراءات التنظيم والبناء، ولنحو 20 عاما لإنهاء إجراءات الحصول على رخصة ".

بلغت تكلفة ما دفعه قنبر للمحامين والمهندسين والمخالفات وتكاليف الصيانة نحو 400 ألف شيقل "راحت في لمح البصر"، رقم "فلكي" في نظر أي شخص لكن لدى المقدسيين بات رقما للقهر يستخدمه الاحتلال لوأد أحلام الفلسطينيين وتحطيمها على قارعة الذل، "حرقت مبلغا كبيرا خلال دقيقتين لكن المال يذهب ويعود، وما أثر بي أكثر شيء هو البيت".

اخبار ذات صلة