طبعاً، وليس لماذا سقطوا؟ لأن السقوط ليس قرارهم، فهذا الأنظمة وجدت وترعرعت في مستنقع السقوط، منها من حاول الخروج أو تغيير الدور المحتوم لها، فانتهوا إلى الفناء، ومنهم من يغالب بما يمكنه فيحتال على الدور بما يستطيعونه، ومنهم من هو متكيف على سقوطه (مكيف على عاره)، فهو يؤديه بكل ما له من قوة، مثله كمثل العميل العقائدي الذي يؤدي دوره إيماناً واحتساباً لسيده وقناعة عنده بما يقوم به، وهذا الصنف يسمي نفسه بالمعتدل ويجمعون أنفسهم في حلف يسمى بحلف (الاعتدال)، وهو في حقيقته حلف الساقطين.
هؤلاء القطيع يعرفون نعمة من أوجدهم كنظم حاكمة إقطاعيات لورانس، وقد كوَّن كلٌّ منهم في مملكته طبقات من المصفّقين أسموا أنفسهم بالنخب المثقفة، وآخرين دونهم يسبِّحون بحمد صنمهم اسموا أنفسهم علماء دين (مشايخ السلاطين).
فلا تستغرب إن علمت أنَّ كل أثر للثعلب الماكر لورانس يجري الاحتفاظ به وترميمه في بلاد الحرمين اعترافاً بصنيعه لهم، وعرفاناً بفضله عليهم ليكونوا ملوكاً وسدنة، في الوقت الذي يزال فيه كل أثر للرسول الكريم وصحبه الأكرمين! ولكن من عرف السبب بطل العجب.
وتَأبى سنة الله في الكون إلّا أن يدور الفلك دورته، ليعلو الحق وأهله، وينخفض الباطل فهو سافل وإن علا واستعلى، (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا).
فبدأت المنطقة تكشف عن ساقيها غاضبة، لهذا الاستزلام الاستعماري لتظهر قوى لها قناعات وتطلعاتها، منها من يرتبط بقناعة تاريخيّة أن أحقيّته بما هو خارج حدوده لا يسقط بفعل اتفاقيات انتزعتها منه بالقوة والبطش، كما هو الحال مع تركيا التي سئمت اتفاقية لوزان وما ألزمتها به، فهي تصفها بالظالمة؛ لأنها سلبتها حقوقها في كثير من أملاكها، ومنها البلاد العربية وأجزاء من أوروبا والشرق المتوسط وطرق المِلاحة.
وهذا الصراع الذي تجدونه في ليبيا واليونان وقبرص.. بين تركيا وفرنسا، هو نتاج قناعة تامة من تركيا بأن الحقبة الاستعمارية قد ولت وانتهت وهذا يعبر عنه كل القادة الأتراك وليس أردوغان وحده، فهي قناعة قومية.
ولكن فرنسا الهزيلة تحاول أن تتشبَّث بالدور الاستعماري، وقد انكفأت أمريكا عنه، وهي تسعى للخروج بقواتها من هذه الجغرافيا التي أرَّقت كثيراً ساكن البيت الأبيض في الآونة الأخيرة، وأنه ليس بمقدور الخزائن الأمريكية احتمال المزيد من الإنفاق على هذا التواجد المستنزف من غير حدود لرؤية ينتهي إليها أو أمد زمني واضح.
لذلك أصبح الخروج الأمريكي من المناطق الصراع المفتوح مطلبًا جماهيريًا أمريكيًا تعهد به ترامب ليفوز، وهو الآن أمام استحقاق لدورة جديدة، فعليه أن يستجيب لوعده السابق قبل أن يعد بجديد، وإلا فهزيمته إلى الآن أغلب من بقائه.
وعلى هذا الاعتبار، يجري ترتيب المنطقة لما بعد انسحاب الجيوش الأمريكية، فتتحشد بشكل واضح وعلني كل أزلامه فيها، والذين كانوا يؤدون أدواراً في ظاهرها التعارض والمعاداة ولكنها في منتهاها تخدم وجودهم الذي هو مصلحة معلمهم (المستعمر الكبير).
لكنه اليوم لا مجال بينهم إلا التوحد في تحالف استراتيجي لمواجهة قوى اقليمية والتي منها من يرى أنه تسبب في هذا الفراغ الأمريكي وهي (إيران من يدور في فلكها) فهي تجد أنه من حقها احلال النفوذ في هذا الفراغ الناشئ، وتركيا وقد سبق الحديث عنها، تعتبر أنها وريثة الجغرافيا الشرعية، وأن كل الحقبة الاستعمارية باطلة وما أنتجته باطل.
وهذه الحقيقة اليوم دفعت دولاً أن تنحاز إلى تركيا باعتبارها قادمة بالقوة والفعل، ودول وقوى تنحاز لإيران باعتبارها شريك في الحقبة السوداء، وهي من وقفت بجانبها في مواجهة النفوذ والقوى الاستعمارية.
وهناك منطق حضاري يقول: أيها العرب توحدوا ضد تحالف الشيطان الذي أسموه بتحالف (إبراهيم) انتساباً كاذباً بأبينا إبراهيم عليه السلام، كما سمي الكيان الصهيوني من قبل بيعقوب (إسرائيل) عليه السلام.
أنه لا داعي لهذا الاصطفاف المعادي، فلتتوحد الأمة في نظام فدرالي أو كونفيدرالي كل قطر يشكل ولاية داخل نظام يحكم هذه الإمبراطورية الكبيرة، في تآلف بين كل المكونات الاثنية والطائفية والدينية، مع الاحتفاظ بالهوية الحضارية لهذه المنطقة الإسلامية.
وإلا ستكون مهلكة كبيرة المنتصر فيها سيخرج على أكوام من الجماجم وأطلال من الخراب، كما حدث لأوروبا في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وأنه لا داعي أن يستقوي أي محور على الآخر بالخارج، وهنا الحديث عن المحورين الأصيلين في المنطقة، يعني وجودهم ذاتيًا وليس مفروضًا من خارج المنطقة، وهما المحور التركي والمحور الإيراني، وتبقى الشعوب العربية بما تشكله من مكون أساسي لهذه المنطقة وثقافتها العنصر الحاسم لطبيعة الصراع.