أن يستغرق وقت وصول طلبة مدينتَي رفح وخان يونس إلى جامعاتهم في مدينة غزة حوالي نصف ساعة من لحظة الخروج من البيت، فهذا كان ضربًا من الخيال في سنوات ليست ببعيدة عمَّن سبقهم من أقرانهم.
فمنذ 15 عامًا تلت الاندحار الإسرائيلي، أصبحت المركبات المسافرة على الطريق من جنوبي القطاع الساحلي إلى كبرى الجامعات الفلسطينية بغزة لربما لا تتوقف سوى لدقائق عند نقطة أمنية أو إشارة مرورية حمراء، بعيدًا عن الانتظار الممل والمذل لساعات طويلة عند الحواجز العسكرية لجيش الاحتلال، التي كانت تستخدم لسد الطرق واعتقال وتفتيش الفلسطينيين ومنعهم من التنقل بحرية بين المحافظات.
قبل 12 سبتمبر 2005م، كان على آلاف الطلبة ممن يقطنون في جنوبي القطاع المرور بسلسلة من الحواجز والنقاط العسكرية على طريقي صلاح الدين والبحر قبل الوصول إلى جامعاتهم، ثم العودة إلى بيوتهم مجددًا، ولعل أشهرها حاجز المطاحن "أبو هولي" جنوب مدينة دير البلح، "سيئ الصيت والسمعة" لدى الفلسطينيين.
واقع أليم
ويتذكر ياسر قديح (36 عامًا) تمامًا يوميات هذا الحاجز، وكيف أنه فرض عليهم جدول استيقاظ مبكر يبدأ مباشرة من بعد أذان الفجر للوصول إلى "أبو هولي" وأخذ دور في صفوف متقدمة، بانتظار شارة جنود الاحتلال لهم للسماح بالعبور بعد فتح الحاجز عند الساعة 06.15 صباحًا.
يصاحب هذا "الدور"، كما يقول قديح، الذي يقطن مدينة خان يونس، معاناة كبيرة تنجم عما يصفها "بأزمة شاحنات وسيارات وحالة ازدحام خانقة"، في ظل حرارة الجو اللاهبة أو برد الشتاء والأمطار.
ويضيف أنه بمجرد عبور ساكن الجنوب أول حاجز عسكري باتجاه مدينة غزة، يتعمد جنود الاحتلال في كثير من الأوقات إدخال 40 سيارة دفعة واحدة قبل أن يُطبق عليهم لفترة قد تمتد لساعة أو ساعتين أو حتى خمسة، بحجة البحث عن مواطنين عادة ما يصفهم الاحتلال بـ"المطلوبين".
ويقول طالب الجامعة الإسلامية بين أعوام 2002 و2006: "كنا دائمًا نمر بهذا الواقع الأليم، نتعرض خلالها لمضايقات ومصادرة الهواتف وتوجيه اتهامات شخصية لنا بالانتماء إلى فصائل فلسطينية".
ويتابع: "صار هذا الأمر بالنسبة لنا أمرًا اعتياديًّا".
ويضيف: "كنا نصل إلى الجامعات وقد فاتتنا الكثير من المحاضرات، وفي حالة كان هناك حدث أمني فإن الحاجز يغلق أبوابه فجأة ونعود إلى بيوتنا من جديد بعد كل هذا الانتظار".
وأمام هذا الواقع لم يكن لقديح من خيار إلا فكرة الإقامة بمدينة غزة، بعد ثالث شهر من دراسته الجامعية، حتى لا تضيع عليه المحاضرات التي كان يفقد جزءًا كبيرًا منها في الفصل الدراسي الواحد، كما يقول.
وينبه إلى أن قرار استئجار بيت في ذلك الوقت، لم يكن سهلًا بالنسبة له ولكثيرين غيره، فتكلفة الاستئجار شكلت عبئًا ماديًّا إضافيًّا أثقل كاهل طلبة الجنوب وعائلاتهم إلى جانب المصروف اليومي ورسوم الجامعة، وكل ذلك تزامن مع إغلاقات إسرائيلية ومنع للعمال من العمل داخل أراضي الـ48 في ذروة اشتعال انتفاضة الأقصى.
انتظار بالساعات
أما طالب جامعة الأزهر بغزة سلامة حمودة وهو من سكان رفح، فلا يتذكر بالضبط كم من مرة لجأ فيها مع آخرين إلى محاولة أخذ قسط من الراحة وحتى سرقة دقائق من النوم تحت الشاحنات المتوقفة على حاجز "أبو هولي" من شدة الإرهاق والتعب.
هذا بخلاف شعورهم الشديد بالجوع في منطقة عسكرية كانت تفتقر إلى أي محلات تجارية لشراء احتياجاتهم، كما يقول حمودة.
استمر طالب العلوم السياسية على هذا الوضع، لمدة سنة كاملة كانت تتوزع فيها المعاناة بين ساعتين أو خمس أو حتى ثماني ساعات، حسب مزاج ضباط الاحتلال على الحواجز العسكرية، يضيف.
ويتابع لـ"فلسطين": "كنا نتعرض دائمًا للتهديد المباشر بإطلاق النار والقتل على الحاجز من جانب الجنود المتمركزين هناك".
وبعد مرور 15 عامًا على الاندحار، يؤكد حمودة أنه لا توجد أي مقارنات بين واقع الطلبة القادمين من الجنوب إلى غزة بعد 2005م، قياسًا بما كانوا يعانونه قبل الاندحار الإسرائيلي.
ويقول: بعد أن كنا نخرج من بيوتنا عند الفجر، يستطيع الطالب اليوم الوصول إلى جامعته بعد نصف ساعة فقط من خروجه من البيت.
وينسب الفضل في ذلك إلى ضربات المقاومة وعمليات الأنفاق المؤلمة تحت المواقع العسكرية الحصينة والتي كانت بحسب رأيه "العامل الحاسم" في الاندحار.
ويرفض ادعاءات بعض الأطراف، سواء فلسطينية أو عبرية، بأن إسرائيل خرجت بإرادتها، مذكرًا بأن رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي في حينه أرئيل شارون، كان يعد -وقبل استشداد عود المقاومة- مستوطنة "نيتساريم" جنوبي مدينة غزة كـ"تل أبيب" في داخل أراضي الـ48.
مخاطرة ومغامرة
واقع الحال لم يتوقف عند الطلبة بل انسحب على شريحة الأكاديميين الجامعيين أيضًا، إذ يصف الأكاديمي من جامعة الأقصى بغزة، الدكتور نبيل الطهراوي، مرحلة المرور عبر الحواجز التي كانت قائمة آنذاك بأنها "رحلة معاناة ومخاطرة ومغامرة".
ويبين الطهراوي لـ"فلسطين"، أن حركة المرور عبر الحواجز كانت تخضع لمزاجية وعقلية جنود الاحتلال التي وصفها "بالصعبة"، فأحدهم يطلق النار وآخر يتلذذ بمعاناة الناس وثالث قد يوقف طابورًا كاملًا من المركبات فقط لأن لون إحداها لم يرُق له!
ويقول: "كانوا يتعمدون إغضابنا والتضييق علينا في ظل الحر والزحمة. كانوا يرسلون رسائل واضحة لنا أنهم يتعمدون فعل ذلك".
ويضيف المحاضر بكلية الإعلام بجامعة الأقصى، أنهم كانوا كأكاديميين يحاولون التحايل على هذا الواقع المر من خلال استئجار شقق سكنية بغزة بسبب تكرر تأخيرهم على محاضراتهم.
ويتابع في الوقت ذاته: "كنا نلتمس العذر لطلبة الجنوب الذين يتأخرون على محاضراتهم من خلال التعويض لهم في أوقات أخرى أو إعطائهم تكليفات بيتية".
ويلخص تفاصيل المعاناة قبل الاندحار وتفكيك المستوطنات بالقول: "كانت ذكريات أليمة، نرجو الله ألَّا يعيدها أبدًا".
وفي رسالته بمناسبة الذكرى الـ15 للاندحار، يوجه الطهراوي رسالة لطلبة الجامعات ولعموم الفلسطينيين بأن "نتمسك بوحدتنا وأرضنا وتعليمنا أكثر، وأن نتذكر أن الاحتلال هو هدفنا الدائم وليس غيره".