يبدو كل شيء مختلفًا في زمن كورونا، حتى ذلك الطفل الصغير الذي أعلن بصرخته قدومه للحياة، ولكن بدت أمامه غريبة ومخيفة (العزل)، ولا شك أنه بحث عن حضن والدته ليشعر بدفئها، ويسمع نبضات قلبها التي تعايش معها طيلة تسعة أشهر، لكن إصابة والدته بفيروس كورونا حرمته ذلك والكثير، ولم يستمع لصوت والده وهو يؤذن له في أذنه اليمنى ثم يقيم الصلاة في اليسرى، وتبريكات الأهل والأحباب بقدومه بعد ثلاث سنوات من الحرمان، فقد وجد نفسه في مكان معزول بعيد عمن سيسجل في شهادة ميلاده على اسمهم.
هذا هو حال ذلك المولود الصغير للسيدة نهاية أبو هربيد المصابة بفيروس كورونا، وتقبع في الحجر الصحي بمستشفى غزة الأوروبي، صحيفة "فلسطين" تواصلت مع زوجها يامن أبو هربيد لتضع يديها على تفاصيل الحكاية.
يقول: "بعد يوم من فرض حظر التجوال أصيبت زوجتي بحالة إعياء وارتفاع في درجات الحرارة فاعتقدت أنها الأنفلونزا، ولكن عدم انخفاضها جعل المخاوف تعبث في صدري، خاصة أنها حامل بعد ثلاث سنوات من الجولات المكوكية على العيادات الطبية لمعرفة سبب تأخر الحمل، ولكنه قدر الله، فذهبت بها إلى مستشفى الشفاء خوفًا عليها وعلى الجنين في بطنها، ووضعت في قسم الحمل الخطر لمتابعتها.
وبعد العديد من الإجراءات الطبية قرروا أخذ مسحة لفيروس كورونا للاطمئنان، فقد كنت مستبعدًا أمر الإصابة، فمنذ إعلان حظر التجول التزمنا البيت، ولكن في اليوم الذي سبق اكتشاف الإصابات كانت في زيارة إلى إحدى أقاربها بمخيم المغازي، هذا إلى جانب أننا ملتزمون إجراءات السلامة والوقاية من يوم إعلان وصول كورونا إلى قطاع غزة في صفوف المحجورين.
بصوت لا يكاد يكون مسموعًا جاءتني مكالمة هاتفية من زوجتي لتخبرني بأن نتيجة الفحص "إيجابية"، فلم يكن مني إلا أن هدأت من مخاوفها التي انصبت على جنينها الذي انتظرته بحنين طويل: "قدر الله وما شاء فعل"، وأتبعتها تلاوة الآية القرآنية: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"، صحيح أن الشخص بعد الإصابة يسلم أمره لله، لكن كان وقعها صعبًا عليها من ناحية نفسية رغم عدم ظهور أعراض أخرى للفيروس.
فزوجته "نهاية" من خوفها على حملها كانت تحسب حركاتها لتتم شهوره على خير دون مشاكل، والجميع ينتظر قدوم طفلهما بصبر نافد، وهي أولهم، ولكنها مشيئة الله.
ضعفت حركة الجنين، ما دفع الأطباء لاتخاذ قرار بإجراء عملية قيصرية لإنهاء فترة الحمل وإنقاذ المولود، وقت إجراء العملية كنت على أعصابي انتظر المكالمة الهاتفية التي يخبروني فيها نجاح العملية وولادة طفلي بسلام.
"لقد كان الأمر صعبًا جدًّا، فلم أستطع أن أكون بجانبها وأمسك يدها لتشد عليها عند شعورها بالألم، حتى إني لم أقم بالإجراء المعتاد بتوقيع العملية، فلا أحد بجوارها يطمئن قلبها، وأنها ستخرج هي وصغيرها بالسلامة، ومن حسن حظها أصيب شقيقها بالفيروس ليكون بجوارها في تلك الظروف".
"رن هاتف مبشرًا بولادتها، هنا اختلط الأمر عليّ، لم أتمكن من رصد مشاعري المختلطة بين فرح وحزن، وبين لهفة وشوق، ولم يكن أمامي إلا أن أتبع سنة رسول الله (عليه الصلاة والسلام) في قوله وقت الفرح: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ثم قوله في وقت الحزن: الحمد لله على كل حال".
"اليوم تعيش زوجتي في وضع نفسي صعب بعد أن فرق فيروس كورونا بينها وبين مولودها، الذي بات بعيدًا عن حضنها، ومنعها أن تضع قبلة خفيفة على جبينه، إذ يفصل بينهما جدار وألبسة وقائية لمنع انتقال الفيروس إليه، خاصة بعد ظهور نتيجة فحصه "سلبية"، أي غير مصاب".
مدير مستشفى غزة الأوروبي د. يوسف العقاد يقول: "إن السيدة المصابة كانت على وشك الولادة وقد وصلت إلى المستشفى قبل عدة أيام، حيث عملت الطواقم الطبية على متابعة حالتها ومراقبة حركة الجنين، التي ما إن ضعفت حتى استدعى الأمر التدخل جراحيًّا".
ويوضح لصحيفة "فلسطين" أنه بعد الولادة فصل المولود عن والدته لمنع انتقال العدوى، مشيرًا إلى أنه بعد التواصل مع جهات مختصة وحسب التوصيات العالمية قد يعيدون الرضيع إلى والدته مع الأخذ بإجراءات السلامة والوقاية.
ويلفت العقاد إلى أن حالة السيدة مستقرة ولا تظهر عليها أي أعراض، ويذكر أنهم -أي الطواقم الطبية- كان لديهم شعور رائع لخوض هذه التجربة الفريدة بتوليد سيدة مصابة، خاصة أن المستشفى لا يوجد فيه قسم للولادة: "ابتسم في زمن كورونا".
من جانبه يبين طبيب الأطفال د. إبراهيم معمر المشرف على حالة الطفل أن صحته ممتازة ومستقرة، وكذلك العلامات الحيوية، ووضع في العزل ضمن برتوكول خاص بالمواليد في التعامل مع الجائحة، وأخذت مسحة للطفل بعد ما يقارب 48 ساعة من ولادته، وكانت نتيجته "سلبية" بحمد الله.