فلسطين أون لاين

من كرسيه المتحرك: لا عذر في هجران الأقصى

...
القدس المحتلة- الجزيرة نت:

ساعتا سفر في السيارة أتعبتا جسد أحمد الشريف (19عامًا)، لكنه لم يجرؤ على التذمر، فقد ألحّ على والديه ليصحباه إلى المسجد الأقصى من بلدته أم الفحم في الداخل الفلسطيني، وأخذ يفكر في الراحة التي سيلقاها حين يستلقي على مصطبة كبيرة بين المصلى القبلي وقبة الصخرة.

تنوب يدا أحمد عن جسده كله، فقد ولد بإعاقة جسدية عرقلت نموه ومنعت حركته، باستثناء كفيه وأنامله الطويلة التي يسيّر بها كرسيه الكهربائي، ويلمس شاشة هاتفه الذكي الذي يتواصل من طريقه مع العالم، فهو يتمتع بعقل سليم، وحواس كاملة، ويتقن الكلام والقراءة والكتابة.

جاءت اللحظة المنشودة، دخل أحمد الأقصى، وساعدت ساحاته الواسعة المنبسطة أن يطلق العنان لكرسيه ويتجول حيثما أحب بين الأسبلة والمصاطب والقباب، لا يفتر رغم حرارة الجو.

التقينا أحمد ذا المحيا البريء الباسم، بعد أن حمله والده عن الكرسي وساعده كي يستلقي على المصطبة المرتفعة عن الأرض ويمسك الهاتف بكلتا يديه، هناك فرشت أمه بساطًا مريحًا ووسائد ليتكئ عليها، ولم ينس الاثنان تفقد جهاز التنفس الملتصق بعنقه على الدوام.

حين استقر أحمد في مكانه والمصلى القبلي أمام ناظريه، أخبر والديه أنه وجد الراحة، وأخبرنا أيضًا أنه يتعب في طريقه إلى الأقصى، لكنه "بألف خير ما دام يشد الرحال إليه"، ثم فتح حسابه الشخصي في (فيس بوك) وكتب: "الحمد لله على نعمة الأقصى" وأرفقه بصورة له داخله.

في أثناء ذلك كان والده محمد الشريف جبارين يوزع حلويات صنعها بنفسه على المصلين، عاد وجلس بجانب أحمد وأخبرنا أن أحدهم رآه منشغلًا بمساعدة نجله وإعانته، فسأله: "ما الذي يجبرك على كل هذا؟!"، فرد: "أنا مرتاح وسعيد بما أفعل".

نعمة وبركة

يقول والد أحمد لـ(الجزيرة نت): "أرى نجلي نعمة لا حِملًا، الله حرمه الصحة الجسدية، لكنه عوضه بهمة عالية وحب للدين والمسجد الأقصى"، ويتابع مبتسمًا: "لقد رافقتنا البركة منذ أن ولد أحمد".

يُلح أحمد على والده أسبوعيًّا لأخذه إلى المسجد الأقصى، ويكابد في أثناء اعتكاف شهر رمضان ليقضي بضع ليال داخل المسجد رغم حالته الصحية، ويعلل والده تعلقه هذا بطبيعة تنشئته وحرص الأول على تشكيل قدوة حسنة له، فهو يسيّر أسبوعيًّا 10 حافلات من أم الفحم باتجاه الأقصى، وينظم خيم الاعتكاف في شهر رمضان، ويدير مشروع "حفظ النعمة" الذي يجمع فائض الأغنياء من الطعام والملابس والأثاث ويعيد توزيعه على العائلات الفقيرة.

يكبر أحمد أشقاءه الثلاثة، ويذهب إلى مدرسة خاصة منذ صغره، ويرافق والده في المشاريع الخيرية التي يقوم بها، ويحظى بشعبية واسعة بين أصدقاء والده ورواد الأقصى، الذين تجمعهم به صور كثيرة نشرها على حسابه الشخصي، ويمتلئ حسابه بصور جمعته بالشيخ رائد صلاح الملقب بشيخ الأقصى.

عاشق الأقصى

يفضل أحمد أن يُنادى "أبا عبيدة"، ولقب نفسه في مواقع التواصل بـ"عاشق الأقصى"، وتقول والدته نجوى الشريف جبارين: "إنه يجد السلوى في مواقع التواصل التي يتابع عبرها أخبار الأقصى وفلسطين، ويلتقي فيها أصدقاء كثرًا يشاركونه في الهمّ والفِكر".

لا تنكر الأم الصعوبات التي واجهتها مع قدوم أحمد إلى الدنيا، لكنها تمكنت من تجاوزها بالصلاة والصبر ودعم الأقارب والمحبين، وتذكر لـ(الجزيرة نت) أنها وزوجها يحرصان أحيانًا على القدوم إلى القدس والمبيت فيها بضع ليال ليقضوا وقتًا أطول في الأقصى ويختصروا عناء الطريق.

 

تصف أم أحمد شخصية نجلها بالهدوء، لكنها استدركت مازحة: "يبقى هادئًا حتى يُحظر حسابه في (فيس بوك) أو يُغلق بحجة التحريض، حينها يحزن ويفرغ غضبه بي، وحين نأخذه إلى رحلات استجمامية يتعب ويتذمر كثيرًا، لكنه يفرح عندما نذهب إلى الأقصى ويرفض الرحيل".

يستمع أحمد لحديث أمه هذا بابتسامة خجولة، ثم يطلب منّا أن نختم حديثه بقوله: "رغم ظرفي الخاص لم أتأخر عن الأقصى، هذه تذكرة لمن رزقوا تمام الصحة، لا عذر لكم بهجران الأقصى".