فلسطين أون لاين

صاحب اللقطة التي هزت الرأي العام يرسم لـ"فلسطين" مشاهد لم توثقها الكاميرات

الصورة التي استفزت الناس "شفت" "جراح الجد خيري حنون

...
غزة - يحيى اليعقوبي

تجاعيد ذلك المسن تروي حكاية أرض وشعب، تحمل وجع التهجير وآلام النكبة، بين قسماتها صبر، وصمود، وتحد، وفي ملامح ذلك الجندي في جيش الاحتلال حقد، وغطرسة، وفاشية، أصابع المسن تتألم كلما حاول رفعها فتبدو ثقيلة، في حين ذاك الجندي يتباهى بيده التي "تستقوي" على "الختيار"، عصا المسن بصعوبة ترفعه وتحمل ثقل جسمه الذي حملته قدماه طوال ستين عامًا، أما الجندي فيحمل بندقية يشهر بها جبروته أينما ذهب، أما ذلك الحاج فلا يملك إلا علمًا يرفعه، ومبادئ، مغروسة في داخله مثل شجرة الزيتون لا يهاجر طريق النضال، باحثًا عن الحرية، في ثوبه أصالة أجداه، يحكي عن تاريخ حب متجذرٍ، وفي العلم الهوية.

من الخلف وضع الجندي المحتل يده على عنق "الختيار" ودفعه نحو الأرض؛ تشبث الأخير بالعلم الفلسطيني، محاولًا إبعاد الجندي الذي يشهر بندقيته نحوه، يلمح في عينيه حقدًا، لم يسقط المسن ولا العلم، وبين هذا وذاك، حكاية أرض، وشعب، ومقاومة، تقابلت العينان لحظة، والمسن محافظًا على إرث وكأنه أرسلت عينه هذا البيت: "ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعَهُ وألا أرى غيري له الدهرَ مالكًا.

جندي آخر سحل قدمي المسن خيري حنون (60 عامًا) وفردهما على الأرض، ليتفرغ الجندي الأول برقبة الرجل واضعًا قدمه بكل ثقلها عليها، ضاق النفس، غاب عن الوعي، الجندي يضغط، الصحفيون يلتقطون الصور، لم ينصت الجندي لنداءاتهم: "إيش بدك بختيار كبير، سيبك منه!"، جندي ثالث يشهر البندقية تجاه كل من يحاول الاقتراب، نفسه يضيق أكثر، الجندي يواصل الضغط، يدوس تحت ركبته قوانين حقوق الإنسان، الصحفيون يوثقون "الجريمة"، العلم لم يسقط بعد.

القصة من البداية

كانت الصورة نهاية مشهد يعيد حنون رسمه، وبينما هو كذلك كانت صحيفة "فلسطين "تنصت لتنقل ما رواه، يقول: "شاركت في نشاط للجان الشعبية، ومقاومة الجدار والاستيطان، للتظاهر على أراضي قرية الراس قرب محافظة طولكرم، التي يحاول الاحتلال مصادرة 800 دونم من أراضيها لإقامة مشروع استيطاني، ومصانع ستلوث المنطقة، تهدد حياة الناس والبيئة لطرد الفلسطينيين".

بفعالية شعبية، رفع الناشطون -ومنهم المسن حنون الذي يتقدم المسيرة- علم فلسطين، ورددوا شعارات تندد بسياسة الاحتلال، لكن جنوده استقبلوا ذلك بقنابل الغاز المسيل للدموع، اقترب الجنود نحوهم، ضابط الدورية يطردهم: "روح من هان"، حنون يبادر بالرد رافعًا العلم أمام البندقية: "إحنا أصحاب الأرض ومالكينها، لا يمكن بجبروتك تشتغل فيها".

"عارفين أنه كتير من مؤسسات العالم داعمتك، ولولا هذا الدعم ما بتعمل الجريمة بوضح النهار" صمت الضابط أمام كلام حنون، وأمهلهم مدة للمغادرة: "روحوا من هان، معكم خمس دقائق؛ ولازم تفارقوا المنطقة"، لكن المسن لم يرضخ: "مش حنفارق، هاي أرضنا وفش إلنا بديل".

لا يزال المسن يرسم المشهد بعدما أطلقت الدورية قنابل الغاز عليهم: "اختنقنا، ابتعدنا، لكن رأيت على الطرف الآخر جنودًا يطلقون الناس تجاه الشبان بداخل البلدة، قربت النظر أكثر فلمحت جنديًّا يشهر سلاحه تجاه أطفال يجلسون قرب بيوتهم".

بجرأة، وبسالة، يبعد بيده البندقة ناهرًا الجندي: "قلت الناس اللي تحت عاملين مشاكل، هدول الأطفال إيش عاملين عشان توجه السلاح عليهم؟!".

تلك اللحظة موثقة في ذاكرة الجد :"كذلك رأيت الجندي اتصل بالضابط، وعلى حسب ما أفادني أحد الصحفيين لاحقًا أنه سمعه يقول له اقتله".

مواجهة غير متكافئة

ليبدأ مسلسل الجريمة، تلك التنهيدة في صوته تخبرك بمائة وجع فوق وجع يكتمها: "وقف الجندي أمامي، اعتقدت أنه يريد خطف العلم مني، لكنه أسقطني وبدأ يضرب بدي، اختنقت، ولم أستطع المقاومة، الصحفيون حاولوا إبعاده، لكن كان الجنديان يشهران السلاح ويمنعانهم من الاقتراب".

"كانوا ثلاثة جنود بالموقع، أحدهم أسقطني أرضًا، والآخر ساعده لجعلي على مستوى الأرض، ومنعي من النهوض، مع تقييد يدي فكانت الصورة التي رآها الجد حنون من بعيد مغايرة لما عاشه في أثناء الاعتداء، صوته هنا لا توجزه كل عبارات الألم: "الذي استفزني والعالم أني كنت شبه غائب عن الوعي، وهو يضع قدمه على رقبتي حتى يزهق الروح، شبه مشهد قتل الأمريكي الأسود جورج فلويد، وهو أسلوب جديد لقتل الناشطين دون سلاح".

"الأعمار بيد الله، ولا هو ولا دبابته وآلياته" هذا الإيمان الداخلي يدفع الجد حنون للمقاومة بلا خوف.

تكملة الصورة

هناك صورة أخرى، لم توثقها عدسات الكاميرات هنا: "الشبان استطاعوا نقلي إلى السيارة، لكن الجندي لحقني، وأخذ مفاتيحها، وفتح الباب، ودفعني مرة أخرى على الأرض".

في لحظة لم يعد يرى فيها أي شيء، سوى خيالات أقدام، وأصوات الصحفيين ينادون على الجندي: "يا عمي عده مات"، في لحظة سمع صوت سيارة الإسعاف تقترب، وكأنها تحمل طوق النجاة، نزل الطاقم الفلسطيني الطبي كاستشهاديين، وأفلتوا رقبة المسن من تحت قدم الجندي المحتل: "هم اللي خصلوني من بين إديهم" خرجت الكلمات منه، وقد سبقتها كلمات تثني على "الجيش الأبيض".

"اللي شفى جراحي الصورة اللي انتشرت، وبينت قديش أنه الناس شافت الجريمة، وقديش الجريمة استفزت مشاعر الناس"، كانت الصورة أشبه بدواء، عالج جراح حنون، و"ليتها تستفز شيوخ العرب الذين يتهافتون للتطبيع".

الجد حنون هو أسير محرر أطلق سراحه في عملية تبادل عام 1985م، بعد أن أمضى ست سنوات، من حكم بلغ 20 سنة، ليعيد الاحتلال أسره بعد ذلك مدة ثلاث سنوات في الانتفاضة الفلسطينية الأولى.

"النضال عندي لا يوجد عنه تقاعد، ما دمت على أرض يجب أن تبقى شخصًا مناضلًا مقاومًا" هكذا لا يمل طريق المقاومة.

"مش حقك ترفع العلم !"

يخرج من درج ذاكرته إحدى جرائم الاحتلال بحقه: "كنا بمنطقة في الأغوار الشمالية، واعتقلنا، بالبداية كان الجندي يريد العلم الذي أحمله، وقال لي: "إنت بمنطقة (ج) مش حقك ترفع العلم"، فأعدت الكلام إلى فمه: "هاي طريقي، وبلدي، وهدا علمي، متل ما إنت رافع علمك على سيارتك، بدي ارفع علم بلدي"، فأصر على أخذ العلم ومصادرته، لكن ضابطًا في الارتباط التابع للسلطة تدخل لإنهاء الموضوع، ما زلت أذكر كلماته لي: "يا حاج اختصر الموضوع، ولف العلم وامرق"، ففعلت مثلما طلب".

لكن الاحتلال لم يترك حنون وشأنه: "فجأة، لحقت بنا دورية الاحتلال، أوقفت السيارة، وأخذت العلم، يومها لم أنس كلمات الضابط: "راح أدوس على راسك وعلى العلم"، ضربت واحتجزت 35 ساعة وشعرت أن روحي ستزهق".

"حنون" من بلدة عنبتا بمحافظة طولكرم، يحمل هموم القرى الأخرى، يحارب الاستيطان بالعلم الفلسطيني، والتظاهر، يواجه بصدره العاري سرطان الاستيطان الذي ينهش الأرض الفلسطينية ويمتد على كل أراضيها: "هذا السرطان بدأ يتعاظم، ولم يسبق له مثيل (...) الجريمة أن تبقى صامتًا ومكتوف اليدين".

غضب العالم لأجل الأمريكي ذي البشرة السمراء جورج فلويد الذي قتلته الشرطة الأمريكية، وصمت عما تبدو نسخة مكررة في فلسطين، جريمة حدثت بوضح النهار، مع الفارق هنا: أن الفاعل جندي محتل لم يراعِ حتى عمر المسن، وأن العالم أمام ذلك لا ينبس ببنت شفة.