ارتدى كمامة وقفازين طبيين، وضع كرسي خشبي تقابله مرآة وطاولة عليها أدوات تعقيم وحلاقة في ممر منزله، بين كل وافد للحلاقة وآخر من أبناء حارته كانت هناك مسافة تباعد.
أمام مدخل منزله، أطلق الحلاق سامح القصاص من مدينة غزة مبادرة حلاقة مجانية لأبناء حيه، مع أنه أحوج ما يكون إلى دخل مادي يعينه على تلبية متطلبات أسرته في أوقات، تعطلت فيها الحياة، وشلت الحركة، وجلس كحال عمال "اليومية" في بيوتهم "بلا مصدر دخل"، بعدما تقطعت بهم سبل العمل؛ بفعل جائحة كورونا.
"شو حابب تكون التسريحة؟" يسأل القصاص أحد الزبائن، الذي لم يبخل بذلك طالبًا "تحديد تسريحة شعر متعبة" للحلاقين، وكان السؤال الذي كرره الحلاق على 40 شخصًا، سلموا أنفسهم "مطمئنين ومرتاحي البال" ليدي القصاص، ومقصه، ليعيد إليهم البهجة، والنضارة، تزيد أناقتهم، ووسامتهم، تلمع شعورهم مثل انعكاس أشعة الشمس على الشوارع المعبدة من بعيد.
"حلاقة الشعر" هي إحدى المشاكل التي تؤرق الرجال والعائلات، خلال أزمة الجائحة، في عدد من البلدان، بعضٌ منهم استخدم مبدأ "الحلاقة الذاتية" فخرج أبناؤه من تحت يديه "مشوهين" بتسريحات شعر غريبة "ليس لها اسم"، لكن القصاص خصص مهنته لأبناء حيه.
صدقة جارية
كان وراء ذلك دافع وسبب، يقول بضحكة سبقت صوته: "زي ما انت شايف فش إلي لازمة بالبيت، قلت أخلي الأهل والشعب يستفيدوا (...) عملت مبادرة لأبناء الحارة والقرايب، اللي وضعهم صعب صدقة عن روح أبي".
أما مسألة الوقاية فهي شيء لا يهمله القصاص: "الكمامة والقفازان الطبية أحافظ على ارتدائها طوال الوقت، جهزت أدوات التعقيم، لأن الأمر في النهاية ليس فوضى، وهذه الإجراءات حتى لا نتضرر جميعًا".
يستقبل القصاص كل وافد للحلاقة، بغسل يديه، ثم وضع (جِل) التعقيم، هو يرتدي قفازين، ثم يرش كلور التعقيم على الكرسي ويضع "الكولونيا"، وبين كل شخص وآخر يتبع الإجراءات نفسها، نازعًا القفازين القديمين من يديه عندما أصبحا "بلا فائدة"، وكل ذلك على نفقته الخاصة، لكنه "لم يبخل عن أبناء شعبه رغم صعوبة وضعه".
أربعة أيام متواصلة
على مدار أربعة أيام، منذ التاسعة صباحًا حتى حلول المساء، يستمر القصاص بالوقوف على قدميه، مستخدمًا أدوات الطاقة البديلة في "المنزل"، استفاد من المبادرة 40 شخصًا حتى الآن.
لكن هناك قيود يضعها، يضيف: "قبل أن يدخل الشخص إلى مدخل البيت، أتحقق من ارتدائه أدوات الوقاية، وأنه محافظ على نفسه".
تمر عليه ابتسامة هنا: "أتدري؛ الحلقة (تسريحة الشعر) بفرضهاش عليه، على كيفه واللي بده إياه بعمله".
ما قدمه القصاص ليس المبادرة الأولى، فهو من النوع الذي لا يتوانى عن التطوع حتى لو كان هذا التطوع في "إجازة الحلاقين" الأسبوعية (يوم الإثنين)، وشارك في حملات حلاقة تطوعية في "دار الأيتام"، والمدارس.
"تنازلت عن الأجرة، لأننا يجب أن يقف بعضنا بجانب بعض، والأمر يحتاج إلى مبادرة ودفعة معنوية، كي نشجع أصحاب مهن أخرى على سلوك المسار نفسه"، وهذا الشيء أشعره بالسعادة و"الفخر بنفسه".
مع بداية العام سلم القصاص محله لصاحبه، فلم يستطع تحمل تكاليف الإيجار، نتيجة وجود التزامات أخرى تمثلت في بناء شقته ووجود استحقاقات والتزامات مالية، ليعمل في صالون حلاقة يملكه حلاق آخر مودّعًا مشروعه الخاص تحت وطأة الظروف.