رغم امتلاكها إمكانات عسكرية وتكنولوجية هائلة ومتطورة تُمكنها من تدمير مدن بأكملها, وتَمَتُعِها ببيئة جيوسياسية مثالية بِفَضل تحالفها مع الولايات المتحدة التي تمنحها دعما عسكريا وغطاء سياسيا لمواصلة تنفيذ جرائمها؛ فإنها تقف عاجزة أمام غزة, فلا هي قادرة على تطويعها وترويضها للقبول برؤيتها ولا هي قادرة على إخضاعها بالقوة لفرض إملاءاتها بعد أن فقد العمل العسكري فاعليته أمام غزة باعتراف الخبراء الأمنيين والعسكريين ؛ هذه الحقيقة تتجلى بوضوح من خلال قراءة الأحداث التي تمر بها جبهة غزة وحالة التوتر التي تعيشها مع تجدد اطلاق البالونات الحارقة وبعض الرشقات الصاروخية وردة الفعل الإسرائيلية وما تحمله من مؤشرات، أهمها:
تبني المقاومة معادلة (القصف بالقصف) واستمرارها في إطلاق البالونات الحارقة تجاه مستوطنات الغلاف والتهديد بإحراق " تل أبيب" في حال نفذت "إسرائيل" تهديداتها بالعودة لسياسة الاغتيالات يدل على فشل إحدى أهم النظريات الأمنية التي صاغها موشيه ديان وطبقتها "إسرائيل" على مدار عقود من الزمن, كما تجسد حقيقة تآكل قوة الردع الإسرائيلية وفشل محاولات ترميمها ؛ فقد تمحورت تلك النظرية المسماة "التصعيد لمنع التصعيد" حول ضرورة توجيه ضربات قاسية لكل من يهدد أمن "إسرائيل" لمنع وردع أي جهة من تنفيذ أي عمل مقاوم.
اضطرار "إسرائيل" للتفاوض غير المباشر مع المقاومة عبر وسطاء في ظل استمرار اطلاق البالونات الحارقة وبعض الصواريخ يعني تخليها مكرهة عن أحد مبادئها بعدم التفاوض تحت النار.
تكرار أساليب الرد والسياسات "العقابية" كقصف المواقع وإغلاق المعابر ومنع الصيد أو تقليص مساحته رغم ثبوت فشلها مرة تلو الأخرى يدل على إفلاس سياسي وافتقار لاستراتيجية عملية واضحة أمام غزة بل إن هناك من يدعي أن تكرار الشيء نفسه وانتظار نتيجة أخرى دليل غباء.
بطلان فاعلية التهديدات التي يطلقها السياسيون والعسكريون في "إسرائيل" وعدم اكتراث المقاومة بها لإدراكها أنها تأتي في إطار الحرب النفسية وامتصاص غضب الشارع الإسرائيلي للتعويض عن عجزهم أمام غزة لاسيما وأن جون كيري تحدث في مذكراته عن حالة الذعر التي انتابت نتنياهو قائلا: (لم أرَ نتنياهو خائفاً وبائساً مثلما كان في حرب غزة 2014) أما أعضاء المجلس الوزاري المصغر فقد اعترفوا بانهيار وزير الدفاع بيني جانتس في أثناء إحدى جلسات الكابينت حيث كان رئيسا لهيئة الأركان حينها.
تغير وتبدل الشخصيات التي شغلت منصب وزير الدفاع وبقاء معضلة غزة قائمة فرغم التصريحات النارية والتهديدات التي أطلقها أشد زعماء اليمين تطرفا أفيغدور ليبرمان ونفتالي بينت إلا أن ضوابط القوة ألجمتهم وألزمتهم التسليم بقواعد الاشتباك التي تنسجم مع إمكانات المقاومة ورؤيتها.
الخشية من الدخول في مواجهة غير مضمونة النتائج وأمام خصم ليس لديه ما يخسره مقارنة ب "دولة" لها اعتباراتها الخاصة؛ كما أن هناك من يتساءل: كيف ستبدو مكانة "إسرائيل" أمام العالم إذا فشلت مرة اخرى في تحقيق أهدافها ؟ وكيف ستبدو قوة ردعها؟
سقوط بعض الصواريخ في مستوطنات الغلاف يكشف زيف ادعاءات " إسرائيل" حول إمكاناتها الدفاعية الهائلة ويضع عدة استفسارات حول مدى فاعليتها في أي مواجهة قادمة .
إصرار المقاومة على كسر الحصار وانتزاع الإنجازات اعتمادا على إمكاناتها وبناء على قراءتها لتداعيات الحصار على غزة ولحيثيات المشهد الإسرائيلي وإدارتها للأحداث بحكمة كما يعترف بذلك العميد احتياط أماتسيا خن الذي تحدث بألم عن فقدان "إسرائيل" زمام المبادرة وقدرة المقاومة على استنزافها بحكمة.
القناعة التامة لدى المقاومة بأن وسائلها المتعددة هي الطريق الوحيد لإلزام " إسرائيل" بتطبيق التفاهمات لاسيما وأن الأخيرة تمرست أساليب المماطلة والخداع .
أمام هذه المؤشرات نستطيع القول إن معضلة غزة ستظل باقية ما بقيت" إسرائيل" بل ستتفاقم أكثر وأكثر مع مرور الزمن ولن يكون أمام أي حكومة " إسرائيلية" قادمة سوى خيارين كلاهما مر, فإما أن تغامر بعمل عسكري يكرر فشلها ويراكم خسائرها البشرية والاقتصادية وإما أن تقبل بشروط المقاومة رغم التداعيات المستقبلية لاسيما وأنها ستكون سابقة وحلقة أخرى في مسلسل التراجع الإسرائيلي الذي بدا واضحا خلال انسحابها من لبنان وغزة ؛ ومن المؤكد أنه لا ولن يكون الانسحاب الأخير.