في مشاغلتها الأخيرة للاحتلال، من خلال البالونات الحارقة أو رشقات الصواريخ المتقطعة على مستوطنة (سديروت)، كانت رسالة المقاومة الفلسطينية تزداد متانة وهي تكسر طوق الإطار المرهق الذي حاول الاحتلال الصهيوني حصرها داخله، حين سعى لجعل أي تصعيد من جبهة غزة مكلفًا ولو كان على نطاق البالونات الحارقة.
تبجح نتنياهو معلنًا أن البالون الحارق يساوي الصاروخ، وأنه يستدعي قصفًا صهيونيًا على غزة في كل مرة، لكن يد المقاومة ظلّت مستمرة في إشعال الفتيل وغير مبالية بعلوّ نبرة التهديد الصهيونية.
صحيح أن الحسابات على جبهة غزة معقدة، وأن حماس ومعها غرفة المقاومة المشتركة تدرك أنه ليس في وسعها خوض حرب مفتوحة إلى ما لانهاية، وصحيح أن الحصار سيظل ينهك الساعد المقاوم في غزة، كونه يفرض أعباء كبيرة على عموم الشعب، ولكنّ الاحتلال أيضًا ليس في وضع مريح، ولديه جملة من الإشكاليات والتحديات الداخلية، كفيروس كورونا وارتباك المشهد السياسي الذي قد يفضي لانتخابات رابعة، وقد أدركت المقاومة أنه إن كان الاحتلال سيظل مستغلًا نقاط ضعفها لفرض رؤيته، فإنها في المقابل ستستفيد من أزماته وثغراته المختلفة، في محاولاتها فرض معادلة جديدة، أو على الأقل إيصال رسالة واضحة بعدم خشيتها من المواجهة.
المقاومة في غزة اليوم وهي تستمر في مراكمة قوتها، وفي اختبار ما تيسّر منها أيضا، وفي فحص جاهزيتها، وفي الإبقاء على حالة استنفارها واستعدادها، وفي امتناعها عن انتهاج نمط تقليدي في صمتها، يغري بضربها أو يشي بخوفها من إشعال جبهتها، إنما تمثل ذخيرة استراتيجية لفلسطين على المدى البعيد، حتى ونحن ندرك أنها ليست على أبواب خوض معركة تحرير، وليس مطلوبًا منها ذلك في الظرف الراهن، إنما يكفي منها أن تكسر ما استطاعت من طوق الحصار المفروض عليها، وهو حصار فرض عليها بسبب خياراتها، وعقابًا على رفضها التسليم والخضوع، فأي كسر في جداره سيعدّ إنجازًا لمشروعها.
لكنها في فاعليتها اليومية، ونفورها من الجمود، ومداومتها على التصعيد وفق رؤية مدروسة ومجمع عليها، تمنح الفلسطينيين شعورًا فائقًا بالثقة، فلا هي بالمقاومة العشوائية أو الارتجالية، ولا هي بالمقاومة الساكنة الجامدة المكتفية بالشعارات والتهديدات التي طال عليها الزمن.
ثمة دلالات كثيفة تكمن خلف تلك العبارة التي صدّرت بها غرفة العمليات المشتركة بيانها حين قالت: (القصف بالقصف)، إذ يمكن للاحتلال أن يفتخر بإنجازاته في غير ساحة وفي ضرباته العسكرية غير المستجلبة ردًا مقابلًا عل أكثر من جبهة، لكن جبهة غزة كانت وستبقى استثناءً رغم أن ظرفها أصعب وأقسى من ظروف كل المحيطين بها من أنظمة وتيارات معادية للمشروع الصهيوني.
ولعلنا اليوم، وبعد ستة أعوام على حرب 2014، ندرك أنها لم تكن جولة محدودة بإطاري زمانها ومكانها في ذلك الحين، بل إن ارتداداتها ما تزال حاضرة، في الوعي الفلسطيني أولًا وفي ثقة المقاومة بنفسها، وفي الذهنية الصهيونية ثانيًا وهي ما فتئت تعيش هواجسها وتتجرع مراراتها، وتستخلص منها دروسًا ستظل - حتى حين - كوابح رادعة تحول بين الاحتلال وخوضه حربًا حاسمة على غزة، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا.