فلسطين أون لاين

يوم الأسير.. جرح يكشف التناقض

لست أدري كيف انتكست قضية الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني لكي يجري اختزالها في فعاليات (احتفالية) تنظّم في يوم الأسير فقط من كل عام، وكيف تم استبعاد متعلقاتها الأهم من الوعي ومن التداول عبر وسائل الإعلام الفلسطينية، وفي الفعاليات الرسمية التقليدية.


كانت قضية الأسرى فيما مضى مقترنة بالبطولة المتواصلة، وبالعطاء غير المنقطع، وبالاهتمام المستمر، وبالمعاني المستخلصة الأرفع، وكانت البكائيات تمرّ على هوامشها وحسب، ولم تكن تلك البكائيات هي القضية كما هو الحال اليوم، فحتى برامج الأسرى في الإعلام الفلسطيني على اختلاف أنواعه تطرق هذه القضية من وجه المعاناة فقط، وسرد الإحصائيات، ورواية واقع السجون، لكن قضيتين أساسيتين تغيبان عن الحضور.


الأولى التذكير الدائم بواجبات المجتمع تجاه قضية الأسر، وهي واجبات كثيرة أولها وأعلاها ما يجب أن يُفعل لأجل تحريرهم، وكيف يجب أن تُدعم الخيارات المفضية لذلك، وأن تحظى بأعلى درجات التقدير والإجلال والمؤازرة. وأدناها المسؤوليات المعنوية والمادية تجاه ذويهم، بحيث تكون هذه المسؤوليات مُعينة على تعزيز صمودهم وليس إشعارهم بضعفهم، لأن زاد الأسير الأهم من الصمود إنما يُستمدّ من طاقة التحمّل لدى أهل بيته، وإيجابيتهم في إعانته على المضي في طريقه.


والثانية إبراز جانب تحدي المحنة أو التعايش معها لدى العائلات التي يعتقل أبناؤها، وخصوصاً المحكومون منهم بالمؤبدات والسنوات الطويلة، إذ من المهم أن يبرز الإعلام ماذا صنع أهل الأسير في غيابه؛ كيف استثمرت زوجته الصابرة وقتها، وكيف ربّت أبناءها وصنعت فيهم إرادة التحدي والتميز، وكيف استمرت حياة تلك العائلة، وكيف صاغت معالم معركتها الخاصة، فكانت الجانب المكمّل لتضحية الأسير، ووجهها الآخر الذي ينبغي أن يظهر ويراه الناس ليكون مُلهما لهم ومغرياً بالمحاكاة.


أما الاستمرار في تناول قضية الأسرى من جانب واحد، وهو تأكيد معاناة عائلاتهم وضعفها، فلا يساهم –على أهميته- إلا في استدرار الدموع أمام الشاشات، وكشف هشاشة العائلة التي خلّفها الأسير، ولا شك أن هذا لا يمكن أن يشكل رافعة تُعين على استمرار النضال، بقدر ما يوحي للمتلقي بفداحة الثمن المترتب عليه.


إن التضامن مع ذوي الأسرى ومواساتهم في مصابهم ينبغي أن يكون نتيجة لخلق هذه القيمة وجعلها واجباً لدى عموم المجتمع، تماماً كما كان الحال في بدايات النضال الفلسطيني، وليس عبر إشاعة ثقافة الشكوى والتذمر لدى ذويهم عندما يكون مطلوباً منهم فقط تصوير معاناتهم أمام الإعلام وإظهار انكسارهم .


ولو نظرنا إلى الفعاليات التقليدية التي تتناول قضية الأسرى، سنجد أنها فضلاً عن كونها موسمية، فإنها قد أفرغت قضية الأسر من مضامينها القيّمة، وبات خطابها يتراوح بين الشعارات غير الواقعية أو الإغراق في البكائيات المفتعلة.


أما الأخطر من هذه النمطية فهو تعامل السلطة الفلسطينية مع قضية الأسرى، لأن الأسير عندها لا يكون مستحِقّاً التضامن إلا وهو داخل السجن، فإذا تحرر منه أصبحت استباحته بالاستدعاء أو الاعتقال أو التعذيب أمراً عاديا، ومن المفارقات المغثية في هذا المقام أن تجد معظم عناصر الأجهزة الأمنية يستحضرون عدد سنوات سجنهم لدى الاحتلال كلما اقتحموا منزلاً او اعتقلوا أسيراً سابقاً أو حققوا معه، وكأن هذا التغني الأبكم بالبطولة الغاربة واستخدامها كمؤشر على الطهورية حكر عليهم دون ضحاياهم الذين هم في غالبيتهم الساحقة محررون من سجون الاحتلال، فكيف حين يكون سبب اعتقالهم لدى أجهزة السلطة نشاطهم ضد الاحتلال أيضا؟!


إن البطولة ليست وساماً أزليا يظل ممنوحاً للمرء حتى لو تغيّرت أفعاله وتحول إلى أداة تقمع المقاومة، مثلما أنها لا تُسبغ على من ارتدّ على عقبيه وحاد عن طريقها، فلكلّ مرحلة أبطالها ورجالها، ولا يمكن أن يكون طبيعياً تقبّل سبغ التقدير المستمر على من توقّف فعله أو تغيّر حاله، بل إن حملة لواء المقاومة والبطولة في هذه المراحل الصعبة هم الأوْلى بالاهتمام والتمجيد، لكنّ هؤلاء يُراد تحجيم دورهم بل وتسويغ محاربتهم، ثم يصبح ممكناً الاهتمام بهم والإعلاء من شأنهم ضمن حالة عامة إذا تحولوا فقط إلى أسرى في سجون الاحتلال!


في ظل هذه التناقضات في المشهد الفلسطيني يُراد لنا أن نُحيي قضية الأسرى، وأن نحتفل بالأسير مرّة كل عام، ونتغنى بتضحياته على وقع أنغام مشروخة تحددها منظومة السلطة مسبقاً، وهي ألحان باهتة ومكرورة وفيها تناقض ونشاز، لأنها تُخفق في تأكيد حضور قضية الأسر في الواقع الفلسطيني، وتعمل على عزلها عن امتداداتها الشعبية والجماهيرية، وتحيلها إلى هياكل جامدة لا تحضّ على التأثير والتغيير، ولا تخلق شعور التضامن أو تحثّ على الفعل. وهذا الأخير هو آخر ما تريد أن تراه السلطة ومن خلفها الاحتلال.